تاریخ انتشاريکشنبه ۴ مرداد ۱۳۹۴ ساعت ۱۰:۴۵
کد مطلب : ۱۱۹۷
۰
plusresetminus
دولة الموعود ومآزق الفكر السياسي
الباراديغم المهدوي باعتباره نهاية لتاريخ الاجتماع السياسي
ادريس هاني
مدخل
تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطا يكاد يكون متكاملا عن أحوال دولته وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشكلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانا. إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة. حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك، وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر. فالظلم والجور غدا معضلة بنيوية، ودورته باتت مأزقا نسقيا. وإن أي حل لا يكون ثوريا سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام، بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديدا نفهم لماذا عبر الخبير الأمريكي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع. وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى لو تعلق بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل. وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضا. إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها.
وعليه تعين وضع ما به امتياز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجا تاريخيا مستعادا، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها. إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبرى القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدا، ليس للمسلمين فقط، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا.
ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى، نعني المستبد العادل. وأيضا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضا توضيح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضارية كونية؛ ضرورة يفرضها الاجتماع الإنساني. ليس من حيث أنها خاتمية الرسالة بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.
دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ
والمهدي باعتباره الرجل الأخير
ليس جزافا أن سمى فوكوياما محاولته الكلاسيكية : نهاية التاريخ والرجل الأخير قبل أن يخفف من غلوائها ويتراجع عن مضمونها الجزافي نحو من التراجع. إنها صياغة تحمل شحنة تحيل على أكثر أشكال الإيمان رسوخا في وجدان الإنسان الحديث. لقد قدمت اللبرالية نفسها تعبيرا عن التجسيد المقدس عن حلم البشر بالعدالة والحرية. واستمرت كذلك مع نجيبتها النيوليبرالية بوصفها نهاية تجسد هذا الحلم. هكذا استندت الليبرالية على تقديم نموذجها باعتبارها وعد الله على الأرض، ومظاهر عدن متحققة بقوة العمران وجاذبية هذا النمط الأبيقوري الذي جعلها تستقوي بمظاهر الاستهلاك والرفاهية والعيش الكرنفالي، مما يحجب كل أشكال العذابات والتدمير الممنهج للإجتماع والبيئة وسلطة التهميش لأغلبية البشر من أن يكونوا شركاء في الحد الأدنى من الثروة والموارد والخيرات. وهي بالتأكيد ضريبة هذه الكرنفالية الدائمة لعدد محصور من النوع يبني رفاهيته فوق عذابات أغلبية المعمورة. العنوان الأخير هو نوع من الشماتة والسخرية المقنعة بهذه الملايين المعذبة والمهمشة في المراكز والأطراف، حيث راهنوا طيلة الحرب الباردة على نموذج أكثر عدالة لينقلهم إلى بعض من تلك الرفاهية التي يحتكرها الأقلون في عالم النيوليبرالية المشحون بكل قيم التغلب والسيطرة والقمع والتحرش بالسياسات الاجتماعية الضامنة لحرية وكرامة هذه الشريحة الأغلبية من المجتمعات. إن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار سور برلين كانا نقطة الانطلاقة لهذا النوع من الطرحات التي تسعى إلى انتزاع الاعتقاد من وجدان البشر بإمكان انبعاث دولة العدالة الاجتماعية من نموذج ما هو بالتأكيد خارج تحكم الفكر السياسي النيوليبرالي. كذلك سعى فوكوياما للقول بأن النموذج اليوم هو هاهنا، وبأن الغلبة للمعسكر الشرقي هي الحجة البالغة على انتصار الليبرالية. بل هي نفسها ذلك الحلم الذي تنتظرونه. لذا كانت برسم تاريخانيته المغالطة نهاية تاريخ النماذج وكان الرجل الليبرالي والأمريكي هو الرجل الأخير.
لعله من المفارقة أن تسعى اللبرالية عبر الخطاب الفوكويامي إلى فرض نموذجها الحالم بغلب الأيديولوجيا وتداعيات الهيمنة الآحادية عشية نهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا منتهى الشطط في إرادة الهيمنة على الوجدان والعقول والضمائر، مع أن لحظة هذا الاستئثار الأيديولوجي كانت هي أسوء لحظة وآلمها على المجتمع الدولي. هذا دون أن نتحدث عن تداعياتها المدمرة التي اتجهت بالعالم نحو مزيد من التفقير والتدمير حتى لتلك المكتسبات التي حققتها البشرية عبر نضالاتها الحقوقية والتحررية. لم يصاغ هذا النموذج الخلاصي الفوكويامي في وجدان البشرية، بل لقد أريد له أن يصاغ في دوائر الهيمنة والشطط في الاستكبار.
لم يعد اليوم وبعد مرور سنوات على إطلاق هذا الخطاب الحالم ما من شأنه أن يدعم كل المسوغات المحشدة التي ساقها فوكوياما للدفاع عن صواب أطروحته. فلقد لجأ ككل ناسج أيديولوجي على أفكار منتزعة من سياقاتها ومقاصدها لدعم خيار لا يزال وراء كل أشكال التفقير والتدمير الممنهج للاجتماع الانساني. فحتى قبل بزوغ الرأسمالية، لم يكن الفقر يوما عاملا لتخريب الاجتماع الانساني وقيمه. لقد جاء التخريب مع شكل مزيف من أيديولوجيا الوفرة. تلك التي تعني بالملموس تقسيم العالم إلى فسطاطين: أحدهما ينعم بأقصى فرص الوفرة والآخر و هو القسم الأكبر يتأرجح بين الفقر وما تحت الفقر. لقد أظهرت الأحداث بؤس هذا الوعد الكاذب لايديولوجيا بقدر ما تنحت أيقونتها الايديولوجية بعناية، ترسم كاريكاتورا لنهاية دراماتيكية لكل أشكال الايديولوجيات. حقا إنها أيديولوجيا محتالة: أيديولوجيا نهاية الايديولوجيات!
لقد سعى هذا الأخير عبر صياغة تلفيقية من فلسفات تتناقض في مبدئها ومنتهاها مع هذه النهاية السيئة التي اكتمل نشيدها عشية انهيار المعسكر الشرقي، إلى أن يصور النيوليبرالية كحركة طبيعية قدر لها أن تواجه كل هذه المضادات لتراتبية التطور التاريخي، ما جعلها انتصارا لطبيعة الاشياء. ففي محاولة تحريفية قصوى استعار هذا الأخير المنظور الهيغلي ليغطي على أزمتين بنيويتين في المشروع النيوليبرالي: الأولى تتعلق بفلسفة التاريخ الهيغلي التي ترى تاريخ البشر هو صيرورة غير منقطعة بحثا عن الاعتبار والكرامة. وهذا المنظور حتما لم يعد مؤسسا حقيقيا للنيوليبرالية بنكهتها الفيكتورية التي حولت مفهوم الاعتراف والكرامة لينحصر في أولئك السادة الذين امتلكوا على حين غفلة وبأي شكل اتفق قدرة التحكم بثرواة الأمم وأيضا مكنهم ذلك من الاستغلال الأقصى لعموم الخلق. فالرأسمالية في أطوارها النيوليبرالية اليوم هي لحظة عارمة تقوم على مولنة الكرامة واختزال الرقي في المراكمة التي عادة ما تقوم على المضاربات المالية الوهمية المدمرة للسياسة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يقودنا إلى الأزمة الثانية حيث لم يصدقنا فوكوياما حينما جعل من الفلسفة الهيغلية رجز أيديولوجيته النيوليبرالية. إن غاية الانسان ليست اقتصادية. وهنا تصلح الهيغلية مستندا ضد النزعة الماركسية. فليس بالإمكان أن نبرر أهمية الديمقراطية لو سقطنا في هذه النزعة المادية لتاريخ التقدم البشري. صحيح قد تكون الهيغلية برسم المادية الماركسية جدلا مقلوبا يمشي على الرأس. لكن تاريخ النيوليبريالية مع كل هذا الادعاء لم يكن يوما استجابة لهذه النزعة الهيغلية بقدر ما هو معانقة لهذه النزعة المادية ؛ المادية التي جعلت من الديمقراطية اليوم وسيلة للاجهاز على آخر ما تبقى من آثار للقيم والكرامة. لم تكن النيوليبرالية هي حصيلة نضال طويل من أجل الكرامة، بل هي نفسها ذلك الخطر المهدد للكرامة، وبالتالي هو ما يجب الانتصار عليه.
يقول فوكوياما مدافعا عن فكرته ومنزها إياها عن زيف الأيديولوجيا:
" وبالرجوع إلى سؤالكم وعن ما أشرتم إليه من أن نظرية نهاية التاريخ هي أيديولوجيا، فإني أقول: ليست أيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية أيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان ".
يحاول فوكوياما أن يقنعنا كما فعل في كتابه المذكور بأن ثمة رؤية أمبريقية للتاريخ يستند إليها هذا النوع من الوعد الكاذب بنهاية التاريخ عند أعتاب النيوليبرالية. والحق أن الأحداث التي رافقت هذا الاعلان لم تكن لتعزز من صدق هذه الاطروحة. إن حديثه الانشائي عن النماذج الواعدة في أسيا هي دليل على انتصار الليبرالية. وقد سعى لتبرير عظمة النموذج الاسيوي الذي قادته ثورة النمور الاسيوية، حتى لو اقتضى الحال ان يجازف هذه المرة ويقلل من نزعته الهيغلية ويتمسك بنزعة اكثر ايديولوجية وبراغماتية وهو يعزو الأبوية المنازعة لديمقراطية هذه البلدان إلى آفاق انتربولوجية خارج منطق التراتبية التاريخية التي أصر عليها منذ البداية أيما إصرار. إن فوكوياما لم يتأمل فارق النموذج لما يبرر سياسة القمع والاستبداد في المجال السياسي للنمور بكونها فرعا لأصول الأبوية، ذلك الارث الطبيعي للسوسيوـ ثقافة السياسية لبلدان لا يهم حقا أن تكون مثالا يعزز انتصار عقيدة الانسان الأخير، طالما أن هذه الأبوية المناقضة لأصول الديمقراطية نفسها تتماشى مع الارتفاع المضطرد لمعدل النمو. وذلك حينما يستشهد هذا الأخير بكلام لكوان يوفان، رئيس الوزراء السانغافوري الأسبق" إن شكلا من الاستبداد الأبوي يتناسب أكثر مع التراثات والتقاليد الكونفوشيوسية في آسيا. والأهم أنه يمشي بشكل أفضل مع معدل النمو المرتفع، بالمقارنة مع الديمقراطية الليبرالية الغربية. فالديمقراطية في نظر لي كوان هي عقبة في طريق النمو" .
إن التاريخ هنا سيكف ان يكون بحثا عن الكرامة والاعتراف، بل هو تاريخ نشاط مادي ذي طبيعة استعراضية قابلة للانهيار الكارثي كما حدث قبل سنوات، وكما سيحدثنا أحد أبرز الفاعلين في اقتصاد المضاربات، والمتهم الرئيسي في كارثة الانهيار الذي شهدته اقتصادات النمور قبل سنوات، حينما يقول، ليس فقط عن هذه الاقتصادات التي أظهرت أن مضاربا واحدا في حجم سوروس يمكن أن يدفع بها إلى هاوية الإفلاس، بل عن عموم النموذج الرأسمالي لما قال:" إن انهيار السوق العالمية، سيكون حدثا مؤلما يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن" .
هنا الديمقراطية تصبح برسم هذه الرأسمالية الجامحة مجرد عارض غريب، وبأن الغرض متى تم ولو بدونها، فذلك هو المطلوب. ثمة مغالطة بخصوص هذه اللعبة القذرة التي تجعل من جموح غريزة التغلب والسيطرة، طبيعة للاجتماع أيضا. وليس غريبا ما قاله تشومسكي عن هذه اللعبة القذرة لمنطق السوق:
"إن مثلا من قبيل الديمقراطية والسوق مثل جيدة، طالما أن "ميل الملعب" يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا. أما إن حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها، فيجب أن يضربوا إلى أن يخضعوا بشكل أو بآخر. في العالم الثالث غالبا ما يفي العنف المباشر بالغرض. أما إذا أثرت قوى السوق على امتيازاتنا المحلية، فسرعان ما نقذف بالتجارة الحرة في النار" .
الاقناع بأن النيوليبرالية ستنتصر لأنها التعبير عن طبيعة الاشياء، سيعيدنا إلى البداية الفيكتورية التي تراجعت فترة طويلة بفعل نضالات شهدتها اوربا. إنها اهتبال وحشي لفرص تاريخية تملك النيوليبرالية قدرة خارقة على استغلالها. لكنها لم تكن هي النهاية نتيجة صمودها الطويل، وليس بروزها لحظة الفراغ يعني أنها هي نهاية الاعتقاد. ان النيوليبرالية والرأسمالية لم تكن التعبير عن رفع القيود المكبلة للانماء، ولا هي معانقة سمحة لطبيعة السوق. بل كانت دائما نتيجة تدخل الدولة. بل يكون تدخلها في الغالب أشرس تدخل. يحدثنا جون غراي عن هذه الحقيقة بوضوح تام:
" إن السوق الحرة التي وجدت في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر لم توجد مصادفة كما أنها على نقيض التاريخ الاسطوري الذي يروج له اليمين الجديد لم تنشأ من تطور طويل غير مخطط، وإنما كانت صناعة يدوية للسلطة وفن الحكم" .
لم يكن فوكوياما في حاجة إلى أن يعلم البشرية ماهية الليبرالية التي عرفوا كل مظاهرها السلبية واصطفافها ضد العدالة الاجتماعية وكوارثها الاجتماعية و الثقافية والبيئية. فإذا كان واقع الليبرالية قد صنع عوالم الفقر وما تحت الفقر سواء في المركز أو المحيط في عز حربه الباردة ضد خصيمه السوفياتي، فماذا لو خلا له المجال واستفرد بالاستكبار ولم يوجد له من رادع أو أن يوجد في هذا الصراع المدمر للبشرية من يخلق شكلا من التوازن يعيق استفراده بالنوع ويؤجل أجندته النهائية. وبالفعل إن سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة كان له الفضل في انهيار كل أشكال السياسة الاجتماعية ليس في الاتحاد السوفياتي فحسب، بل في أوربا التي أدخلت مجتمعاتها في دورة نيوليبرالية غير مقدور عليها بالنسبة للعقل السياسي الأوربي، مما جعل حركة الاحتجاج والثورة تنطلق هذه المرة من هوامش أوربا ضد ذلك النموذج النيوليبرالي الأمريكي الذي بات يتهدد الهوية الثقافية والمقومات الاجتماعية لأوربا نفسها، تلك التي صدرت يوما نموذجها الاقتصادي والاجتماعي ليس على أساس عظمتها الليبرالية، بل على أساس سياستها الاجتماعية التي ظلت حتى حين مدينة فيها للنموذج النقيض، حيث كان للصواريخ الباليستية السوفياتية الفضل في حفظ هذه السياسة حتى لا يصبح للنموذج السوفياتي الاجتماعي جاذبيته تلفت انتباه مجتمعات أوربا الغربية.
يبدو أن النهاياتية تتحدد بآخر حلم بشري. فطالما ثمة ما لم يستنفذ من هذه الأحلام، ومادام أن ثمة مجموعة بشرية تنتظر ما هو أفضل، فذلك خير دليل على أن النهاية لا تكون كونية إلا إذا تحقق معها مخرج كوني لعذابات الشعوب وانحطاط الأمم. ومع ذلك يكون خطاب النهايات نظير ما رأينا من فرنسيس فوكوياما، على علاته وإسرافه واستعجاله أكبر دليل على أن ثمة نموذجا ما تنتظره البشرية دون أن تجد له طريقا ولا مثالا في هذا المعروض البشري المحكوم بنيويا بمظاهر الظلم والجور. أو لنعتبرها حكاية قرصان انتصب في وسط الطريق ليسرق من الموكب البشري ما تبقى لديه من حلم. ليس غريبا أن الرأسمالية سرقت الشعوب واحتلتها ونهبت مواردها. فاليوم تسعى لاحتلال وعيها وسرقة رأسمالها الرمزي المحتمل، سرقة مستقبلها بعد أن فعلت ذلك في ماضيها وحاضرها.
وإذا كان مظهر قومة الموعود هو القطيعة مع كل أشكال الجور والظلم وانطلاقا سمحا في آماد العدل والخيرات، فلا بد أن يكون آلة تحقيق ذلك هو قيام دولة عظمى، تتميز ليس فقط في استقوائها الإيجابي الذي لا قبل لدول العالم به، بل تتميز أيضا بحسن الإدارة وقوة الإنماء والتقدم بحيث تحمل استحقاقها في مظاهر نموذجها الذي سينسخ تلقائيا كل النظم السياسية التي سوف تبدو حتما في صورة بشعة يكاد المرء يعجب كيف صمد الجهل كله والظلم كله في هذه النماذج السياسية وكيف ظلت البشرية أسيرة لهذا الانسداد السياسي الأعظم. لكن قبل الحديث عن ميزات دولة المهدي وخصائص سياسته للمدينة الموعودة لا بد أن نقف عند نقطتين أساسيتين:
إحداهما تهدف تمييز دولة الموعود عن دولة الطوبا
والأخرى، أن انتصار دولة الموعود لن يكون بالضرورة انتصارا حربيا.
دولة الموعود ودولة الطوبا أية علاقة
ثمة ما هو مهم في دولة الطوبا، وهي ذلك الحلم الكبير الذي لم يبرح خيال الفلاسفة والحكماء، وهم يعبرون بصورة مثالية وذوق رفيع عما يختلج في قلوب البشر. إنها قصة الحلم بمستقبل أفضل ونموذج أكمل. لكن تفاصيل ما جاد به خيال أولئك جعلها قصة حلم فقط وليست حتمية من حتميات التاريخ. إن دولة الموعود هي كبرى الحتميات التي يفرضها منطق التاريخ نفسه. وهي كذلك بما أنها تقع في حيز الإمكان لا تعاكس الضرورة المنطقية أيضا؛ تلك الضرورة التي يعززها أيضا منطق الإيمان. إن إطلالة سريعة على بعض أحوال المدن الخيالية تضعك أمام شكل من أشكال النقص والاعورار في تدبير المدينة يؤكد على أن منطلق النقص هو كامن في بنية الخيال نفسه وتصورنا للعدالة والحقوق. إن أي حالم بهذه الطوبا لم يفعل أكثر من تجسيد مظاهر ثقافته وخبرته ودرجة خصوبة خياله. لكنه لم يتمكن من ذكر إلا نموذج يستحق أن يوصف بأنه ليس له من الجدارة إلا أن يظل خيالا مستحيل التحقق. ودولة الموعود تحمل مظاهر استحقاقها في نموذجها ومن منطق التاريخ، بحيث ندرك لو قارنا بين كل أشكال الطوبا ودولة الموعود سنجد أن أرقى نموذج يرقى ويهذب حتى مخيلة الحالمين هي دولة الموعود كما سنجدها وحدها من بين هذه الدول الحالمة، تتوفر على ضمانات تاريخية وجغرافية ودينية. بل إنها لا تنتمي لجنس الأدب اليوتوبي ـ طالما هي متصلة بأزمة الراهن وطالما هي ليست مجهولة المكان والشروط بالجملة ـ، لأنها ليست كما الطوبا: أي اللامكان، بل هي دولة موعودة بحتمية التاريخ وضمانة الوحي وتحقق الجغرافيا. إن دولة الموعود لها جذر تاريخ حققي وأيضا جغرافيا سياسيا للانطلاق وأيضا ضمانة دينية.
تضعنا الأخبار الاسلامية على محددات لتشخيص الموعود وتاريخانيته وجغرافيته. وقلت تاريخانيته احترازا من الالتباس الذي قد تضفيه عبارة تاريخه، لأن التاريخ بناء على النهي عن التعيين، أمر ثابت بالجملة ومتوقف على شرائط. عدم التعيين لا يخرج الحقيقة من سياق التاريخ وفلسفته. لكن التاريخ هنا ليس محض كرونولوجيا بل هو فعل تراكمي تشارطي. وتاريخانية الظهور يعني أنها حتمية تاريخية متوقفة على جملة من الشروط.
ففي سنن ابن ماجة» (ج 4 ص 151 ط السعادة بمصر) قال: ذكر الحافظ أبو داود السجستاني في «سننه» (ج 4 ص 151 ط السعادة بمصر) قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبدالله بن جعفر الرقي، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن عليّ بن نفيل، عن سعيد بن المسيّب، عن اُم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول: المهديّ من عترتي من ولد فاطمة".. في منتخب كنز العمال: المطبوع بهامش المسند ج 5 ص 96 ط الميمنية بمصر). روي من طريق ابن عساكر عن الحسين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لفاطمة: إبشري يا فاطمة فإنّ المهديّ منك. روى بسنده عن عليّ بن هلال، عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وهو في الحالة التي قبض فيها فإذا فاطمة عند رأسه فبكت حتّى ارتفع صوتها فرفع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إليها وقال: حبيبتي فاطمة ما الّذي يبكيك فقالت: أخشى الضيعة من بعدك فقال: يا حبيبتي أما علمت «إلى أن قال»: ومنّا سبطا هذه الامّة وهما إبناك الحسن والحسين وهما سيّدا شباب أهل الجنة وأبوهما والذي بعثني بالحقِّ خير منهما، يا فاطمة والذي بعثني بالحقّ أنّ منهما مهديّ هذه الامّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن وانقطعت السبل وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقر كبيراً فيبعث الله عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في آخر الزمان ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً الحديث . حديث ابن عباس كما ورد في المناقب: لعبدالله الشافعي: ص 215 ورى بسند يرفعه إلى ابن عبّاس رضي الله عنه عن الحسين بن عليّ (عليه السلام)قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول: إنّه منّي يعني المهديّ من ولد الحسين بن عليّ. عن عبدالله بن مسعود في صحيح الترمذي: ج 9 ص 74 الصاوي بمصر. حدّثها عبيد بن اسباط بن محمّد القرشي الكوفي، حدثني أبي، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن بهذلة، عن زرّ، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: لا تذهب الدّنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطي إسمه إسمي. قال أبو عيسى: وفي الباب عن عليّ وأبي سعيد وامّ سلمة وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. قال: وحدثنا عبد الجبّار بن العلاء، عن عبد الجبار العطار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبدالله، عن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي قال عاصم: حدثنا صالح، عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتّى يلي. هذا الحديث حسن صحيح. عن عليّ (عليه السلام)
في كتاب الاعتقاد للبيهقي: (ص 105 ط كامل مصباح) قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد (رحمه الله) أنبأنا حامد بن محمّد الهروي أنبانا عليّ بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فطر
بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنّه قال: لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي. الخ.
عن تميم الدارمي في تذكرة الحفاظ: (ج 1 ص 765 ط حيدر آباد).
قال: أخبرنا عبد الخالق [القاضي] وابنة عمّه ستّ الأهل بقرائتي عليهما ببعلبك قالا: أنبأنا البهاء عبد الرحمّن بن إبراهيم منوجهر بن محمّد، أنبأنا هبة الله بن أحمد، أنبأنا الحسين بن عليّ بن بطحاء سنة 428، أنبأنا محمّد بن الحسين الحرّاني، أنبأنا محمّد
بن الحسن بن قتيبة أنبأنا أحمد بن سلم الحلبي، أنبأنا عبدالله بن السرّي المدائني عن أبي عمر البزّار، عن مجالد عن الشّعبي، عن تميم الدّرامي قال: قلت: يا رسول الله ما رأيت للروم مدينة مثل مدينة يقال لها: انطاكية، وما رأيت أكثر مطراً منها; فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: نعم وذلك أنّ فيها التوراة وعصى موسى ورضاض الألواح ومائدة سليمان في غار ـ إلى أنّ قال ـ: فلا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يسكنها رجل من عترتي، اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، خلقه خلقي، وخلقه خلقي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
في صحيح الترمذري: ج 9 ص 74 ط الصاوي بمصر. قال: قال عاصم: وأنبأنا ابو صالح، عن ابي هريرة قال: لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يلي (يعني حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي) وانّما لم يذكره تعويلاً على ذكره في الحديث.
وقد رويت أخبار أكثر من ذلك وبطرق مختلفة تؤكد أن الموعود مشخصا لا مجرد فكرة في الرؤوس كما رأينا في الأدب اليوتوبي ورأينا لها نظائر عند من اختزل القضية والشخص في مشروع فكرة.
وأما من حيث المكان، فالأخبار تكاثرت في تعيينه ليس فقط في الاقليم أو البلدة فقط بل حددت حتى موطء قدمه الأول حين الخروج ومكان صلاته وظهوره. ففي«الأربعون حديثاً لأبي نعيم» الحديث السابع قال: روى باسناده عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يخرج المهديّ في قرية يقال لها كريمة. وثمة روايات تتحدث عن خروجه بين الركن والمقام مما لا يخفى على مطلع على أحوال عصر الظهور.
تتجلى ضمانة الوحي في مجمل النبوءات التي زخرت بها التعاليم وحثت على الاعتقاد بها بوصفها وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وما تعبيرنا بالنبوءة في المقام إلا جريا على المتداول. وإلا فهي حقائق المستقبل التي ذكرتها المصادر الدينية الكبرى. إضافة إلى أنها عينت لها تاريخا مجملا متصلا بأشراط محتومة كما عينت لها جغرافيا مشهودة.
تظل دولة الطوبا مستحيلة التحقق بلا ضمانات. حيث لم يعد بها من تنزل وعده منزلة المحتوم. ولا تعينت جغرافيتها التي ستشهد نشأتها الأولى إلا في خيال الحالمين. إنها محض تعبير عن أحلام. لكنها أحلام تؤكد بأن ثمة حتمية لا مفر منها. أن تبلغ الأمم رشدها الحقيقي و تتكامل فكرة العدالة لتستصدر نموذجها الكامل بقيادة الإنسان الكامل.
ثم إنها بما هي تعبير عن تصميمات أيديولوجية وثقافية خاصة بالحالم وبيئته الثقافية لا يمكن أن تكون بالضرورة كونية وفيها إسعاد كل البشر. بينما ليس في دولة الموعود ما يتعذر تحقيقه. وليس لها من خصوصيات إلا قصة الدين كما يطرحها تحدي الإلحاد. وهذا سينحل بمجرد أن يدرك العالم أن الدين ضرورة وواقع أكثر الحقائق برهانية وقوة في زمن الموعود.فالدين كان ولا يزال وسيظل الظاهرة الأبرز في تاريخ النوع. فإذا تحقق ذلك لم يعد في مظاهر دولته العادلة ما يجعل الحليم حيران. بل يصبح الإلحاد شذوذا وتفاهة وانحطاطا. فلن تزعج دولته يهوديا أدرك تعاليم موسى ولا مسيحيا أدرك تعاليم عيسى، حيث كان من المفترض أن يشهد الأنبياء على صدق دولة الموعود، ليؤكدوا لاتباعهم أنها هي نفسها دولة الوعد الموسوي والعيسوي. لكن عودة المسيح نفسها هي الدليل الكافي لذلك، حيث وجود المسيح الذي شكل عقدة مفصلية في الانتقال النبوي من الموسوية إلى العيسوية، سيثبت ذلك بضمانة قوة الموعود نفسه ويجعل الأبدال والأتباع من مختلف الأقوام. حيث من بني إسرائيل من سيدخل دولة الموعود وينصرونها؛ اعني الأمتين اليهودية والمسيحية. دولة الموعود تؤكد أن الأشرار الذين سيواجهون دولة الموعود هم أشرار الخلق ممن كان يتأسلم أو يتهود أو يتمسح، مما يعني أنها دولة الإنسان التي ستعيد وضع خريطة الطريق لتوزيع أمثل لقيمة الإيمان، فهي دولة الابتلاء الكبير. فخصومها قد يكونوا يهودا أو مسيحيين أو حتى مسلمين وغير دينيين، كما ان أتباعها سيكونون مسلمين ويهود ومسيحيين، إنها ليست قضية مسلمين فقط بل هي قضية العالم أجمع!
ففي رواية عن الإمام الباقر (ع):" فإذا اجتمع عنده عشرة آلاف رجل، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله تعالى إلا آمن به وصدقه" .
أما من جهة الحروب ومظاهر العنف المقدس الذي تحدثنا عنه الأخبار، فهو لا شك عارض ستقوم به البشرية نفسها مع ظهور النموذج وتحققه على الأرض بقيادة الإمام المهدي ـ عج ـ. بمعنى أن الحرب سوف تكون موقف الشعوب والأمم من عدوها الذي يبغي لها الاستمرار تحت وطأة الجور، وليس ذلك خيارا للإمام إلا من حيث هو الحل الأخير الذي ستفرضه أقلية قليلة من البشر، تريد أن يتأبد الشر في العالم حيث كتب الله أن للعدل المطلق دولة موعودة هي حجته على أن عالم الخلق قادر أن يظفر بتلك العدالة التي جاء من أجلها الرسل ودعا إليها صلاح الأمم دون أن تتحقق. إن عنوان الحرب أو السيف الذي وصفت به دولة الموعود، هو من باب التغليب لأمر اختص به الموعود دون سائر خواص الخلق من الأنبياء والأولياء ؛ أعني تنفيذه للحكم الواقعي في مقام القضاء. فالعدالة المطلقة تقتضي أن لا يأخذ بالظاهر فيما هو يعلم الواقع. وأن لا يحكم بالبينات والأيمان فيما هو يدرك من أمر الجاني في حاق الواقع ما خفي عن الأنام. إن سائر الأنبياء والأوصياء كانوا على علم بما يفعل الخلق، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بتنفيذ الأحكام على وفق ما يعلمون. وبذلك فقط تتحقق العدالة المطلقة ليس لأن الموعود سيحكم في مقام التقاضي بالعلم فقط، بل إن سيفه سيلحق كل من أتى جريمة حتى يدخل في قلوب الجناة الرعب، فلا يجرأ أحد على الإقدام على أية جريمة. إنه الردع والقانون يتنزل في موارده دونما شطط ولا إخطاء الجاني.
عن الإمام الصادق (ع):" إذا قام قائم آل محمد (ع) حكم بين الناس بحكم داود، لا يحتاج إلى بينة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استنبطوه" .
ليس سيف الإمام المهدي سيفا جبارا إلا من حيث هو تعبير عن جلال البارئ تعالي، ولكن لا ننسى قيمة الجمال لدولة الموعود التي بها ستصبح الأرض مسرحا لكبرى قيم العدالة والحق والخير، فتعتدل بها السياسة والمعاش، ويشذ فيها الباطل والجور والشطط. إن سيف المهدي قوة لا شطط فيها. سيف العدالة لا يحرفه عن مهمته نزوة عصم منها. فهو مأمور تجري حركته بعين الله، لأنه وعد الله ووليه الذي احتفظ به لهذه المهمة العظيمة وسدد خطوه، حتى كان له وليا وناصرا ودليلا وعينا.
يومها ستدرك الأمم قاطبة أي سيف هذا الذي يمتشقه أسد الله الموعود. ذلك لأنها ستشهد لأول مرة بعد تاريخ مرير من الجور أنه سيف في خدمة الحق و العدالة. لن يتطلع أحد إلى نموذج آخر بعد ذلك، لأن النموذج الأخير سيعلم الأمم أن فرصتهم الأخيرة هي ها هنا في ظل حكومة الموعود.
وكما جاء عن الإمام الباقر(ع):" دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء. وهو قول الله عز وجل: والعاقبة للمتقين" .
المهدوية وحتمية الطريق الثالث
يوقفنا تاريخ الفكر السياسي على ضربين من المخارج الرئيسية للاستبداد ونظام السلطان العاري. ولم يشهد تاريخ الفكر السياسي من مخرج حقيقي سوى منظورين سرعان ما استتب الأمر لأحدهما بعد أن أصبح الأول هو نفسه موضوعا للاستهجان والامتعاض. ونقصد بذلك مفهوم المستبد العادل ومفهوم الديمقراطية. وحتى وإن كانت معظم النظم السياسية المعاصرة لا زالت تدين لفكرة الاستبداد، فإن الديمقراطيات هي نفسها باتت تستنجد بسلطة المستبد حتى يرعاها، مما جعلها غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدل وتأمين الحقوق. إن فكرة المستبد العادل ما هي إلا مخرج من كل أشكال الطغيان العاري الذي عرفته البشرية ووسم تاريخها بالعنف والعبودية والانحطاط. ومشكلة المستبد العادل في حكومة الموعود لا موضوع لها، لأن حكومته جاءت لتتجاوز معضلة أقصى ما بلغته البشرية في نظمها السياسية، أعني الديمقراطيات. فهي متجاوزة لنموذج المستبد العادل برتبتين، ما دامت هي متجاوزة لما كان متجاوزا لها، أي النظام الديمقراطي. ولعل الشبهة في المقام، أن حكومة الموعود يحكمها شخص واحد. وهذه الشبهة تخطئ مناط قيام النماذج والنظم السياسية وفلسفتها. لأن الديمقراطية نفسها لم تكن هدفا في ذاتها إلا بالقدر الذي تمكننا من بلوغ أفضل اختيار حر للحاكم. ليست الديمقراطية في نهاية المطاف وبكل المخارج التي لحقتها من أجل التقليص من صلاحيات الحاكم الفرد، مثل الانتخاب الدوري والفصل بين السلطات، إلا بحثا عن حكم العادل. وليس الانتخاب الحر نفسه هدفا في ذاته، بل من حيث هو طريق لاختيار الأفضل. فإذا كان الطريق إلى معرفة الأفضل غير هذا النموذج، فإنه المطلوب، لأنه الغاية. بل اختيار الأعدل هو قيمة القيم. إن مفهوم العدالة يتناقض مع الاستبداد بمعناه السياسي. فالعدالة في ظل هذا النموذج هي مصلحة المستبد بما هو أقوى وليست العدالة المطلقة التي تتحرك في الاجتماع السياسي الموعود على أساس العدالة والعلم والمهمة الرسالية. بل ليست أحكامها جزافية ولا أحكاما مزاجية بل هي تنفيذا أمثل لقانون أمثل. وقد جاءت الديمقراطية لتعيد الاعتبار إلى حق الشعب في اختيار نموذجه وحكم نفسه بنفسه عبر آليات وهيئات تمثيلية تمارس الحكم والرقابة حتى تحاصر تشكل الاستبداد بالسلطة ولا حتى الاستبداد بسلطة من السلط المفصول بينها. لكن الجدل الذي شهدته ولا تزال المجتمعات حول نواقص الديمقراطية وفشلها بالارتقاء بالإنسان وحماية قيمه، بل كونها أصبحت وسيلة لتدمير القيم الجماعية بفعل تغول سلطة الفرد وفوضى الحريات وانهيار مفهوم الأسرة وما شابه، هو نفسه أصبح طريقا لا يقل ضراوة عن سابقيه، طريقا لأشكال جديدة من الطغيان والتدمير الممنهج لقيم الإنسان. إن الديمقراطيات اليوم في البلدان المتقدمة لا تخلوا من هذا النوع من الاستبداد الناعم الذي يجعل السلطة لا تفلت من أيدي بارونات المال والمتنفذين وأعوانهم. يلعب المال والمصالح الشخصية والفئوية دورا حاسما في اللعبة الديمقراطية. فالأمر كما يبدو تحول من نظم تفرض نفسها بالباطل والاستبداد القائم على القوة إلى نظم تسمح باللعبة السياسية، على شرط أن تكون لعبة بين أقوياء مسلحين بالمال والنفوذ وبين أشخاص منزوعي السلاح والقوة. لعبة يدرك الجميع أن مآلها الوحيد هو استبداد مقنع بالسلطة. إن دولة الموعود لا هي استبداد شخصي لأن مفهوم التشخصن أبعد من أن يكون سمة للإنسان الكامل المنزه عن الأنا. وكذلك هي أبعد من أن تجعل مصائر الخلق متوقفة على لعبة الديمقراطيات التي أوجدت أشكالا أخرى من الجور البنيوي، لا طريق للخلاص منه إلا مع قيام دولة الموعود. إن هذه الأخيرة هي إعلان صريح عن نهاية عصر المستبد العادل وعصر الديمقراطية، لأن عنوانيهما سينتفيان لا محالة بعد تحقق النموذج الأكبر؛ حكومة الإنسان الكامل. أعني حكومة تلتقي عندها مقاصد الخالق والمخلوق. يكون الاستبداد فيها ليس ذاتيا بل موضوعيا كما هي جملة الحتميات الطبيعية الأخرى. وإن الموعود سيحكم الناس في طريق العدل بقوة الحتميات الطبيعية. فإذا تحقق خروج الانسان الكامل وظهر، انتفى موضوع المستبد العادل كما لم يعد للديمقراطية موضوعا. فاختيار الأصلح مع وجود الإنسان الكامل، لن تكون حينئذ إلا وقاحة من الأشرار الذين سيكابرون رغم الصيحة ـ الإعلامية ـ التي ستجعل الموعود معروفا لدى العالم، لا يجهل استحقاقه أحد . ولا شك أن الانتخاب الطبيعي في المقام هو العمدة التي ينتفي معها موضوع الاختيار الحر. ليست الديمقراطية هي النظام الأمثل والأخير بل هي أفضل من سواها مما في يد البشر. لكنها كانت دائما تأكيدا على تلك الحقيقة التي يتعين أن لا يمارس النسيان في حقها؛ هي كونها تقر بأن لا ضامن للعدالة في غياب نظام النبوة والانسان الكامل. وبأن دولة الموعود هي وحدها النظام الذي يحمل خصائص دولة النبوة والانسان الكامل المفقود.
هل هي دولة أم قومة
يتطلب الأمر عودا إلى المعجم السياسي للوقوف على مفهوم الدولة بمدلوله المعاصر. وحتما إننا ندرك أن الدولة لم تبرح حياة الاجتماع الإنساني منذ عرف الأشكال الأولى للتنظيم والإدارة العقلانية لجماعة بشرية ما. لكن هذا لا يمنع من القول أن مفهوم الدولة الحديثة برسم التعريف الويبري الشهير لا يغدو أن يكون إلا كما ذكرنا؛ التدبير العقلاني، حيث لا يسعنا تمييزه عن أي دولة في تاريخ النوع سوى بهذا الشمول والعمق والنضج العقلاني كما شهده تاريخنا الحديث. لذا كان الأمر سيكون صعبا لا بل متعذرا أن تقوم دولة الموعود في شروط تاريخية غير الشروط التي ينعم بها تاريخنا الحديث والمعاصر. إن الدولة بمعناها اللغوي تحيل أيضا إلى الجولة. ودولة الموعود هي خاتمة الجولات، وبالتالي خاتمة الدول. وهي منتهى التدبير العقلاني الذي لا يدع مجالا للاحتمالات الكبرى، لأن نضج البشرية بهذا النموذج سوف يتعدى كل أشكال النضج التي وسم بها تاريخنا الحديث منذ قررها كانط مجيبا عن سؤال "ما معنى التنوير".
إننا ندرك أن معضلة الاجتماع السياسي والذي فجر إشكاليات الفكر السياسي والاقتصادي، هو الندرة. فلو أننا سلطنا الضوء على كبرى نظريات الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والفكر السياسي، سنقف على تلك الحقيقة التي لا زالت تؤرق العقول: لدينا دائما في أي اجتماع سياسي أو جغرافيا سياسية عددا محدودا من المناصب والموارد والامتيازات. وحيث أصبح من الصعوبة بمكان تأمين الحقوق برسم الرفاهية لكل الشعب، إلا على أساس التوزيع الظالم للثروة وبالتالي النفوذ، فإننا سنجدنا دائما أمام ذلك المبدأ الأساسي والطبيعي الذي توارى بمخاتلة وراء مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية ؛ أعني مبدأ القوة الذي هو العامل الوحيد الذي لا نزال نفسر به كل أشكال الاجتماع السياسي بما في ذلك الشكل الذي ينتمي إلى دولة الرفاهية. وجود القوة الفئوية ووجود الندرة عاملان أساسيان في هذا الانسداد السياسي الأعظم.
تزعم دولة الموعود بأنها ستنطلق من هذين العاملين في تحقيق نموذجها. إنها من جهة تتحدث عن القوة، ولكن وحيث يتعذر غياب القوة فإن دولة الموعود تتحدث عن تمركز عادل للقوة. إن قوة المهدي لا تستمد فقط من القدرة على التغلب بوسائط بالغة الإعجاز. بل هي ارتقاء في الأسباب والسنن. لعل أهم مصدر لقوة المهدي هي قناعة الشعوب بقيمة النموذج الأمثل الذي سيجعلهم بعد يأس جماعي مرير يقفون على معنى جديد ومطلق للعدالة الاجتماعية. إن الإلحاد لا يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود أو يملك حتى من المصالح حينئذ ما يغري به دنيا
البشر. فالمهدي سينمي دنيا البشر حتى يصل إلى كل ذي حق حقه، فلا مجال للابتزاز والمساومة باسم الدين. بل لا مجال أن يتعرى الإنسان من قيمه النبيلة ليكسب رهان المصلحة المشروعة. فدولة المهدي ستجعل المعاش متماهيا مع القيم. بل ستجعل غداء الإنسان قيما كبرى بعد أن يتشبع بحقوقه المادية ويدرك أنها لا تفرض عليه كل هذا الحرص والخوف من فوات الفرص. إن واحدة من مصاديق القوة المهدوية، امتلاكه الحجة الكبرى. فلا يظل صاحب دين في غمرة الشبه. فالناس هم أنفسهم سيثورون في وجه من عارض المهدي.
فعن أمير المؤمنين:" إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشا فخسف به بالبيداء، وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وأدخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة. ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس وتنقل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى تبنى المساجد بالقسطنطينية وما دونها" .
ولا ندري كيف سيتخلف عن دولته اليهود والنصارى وقد استخرج التوراة والإنجيل وأوضح أنه موعود العالم جميعا. بل كيف يظل الغرب المسيحي بعيدا عن هذه الدولة وقد تزامن ذلك مع نزول المسيح(ع). حيث لنزوله مغزى عميق. فهو أكبر شاهد على شرعية الموعود، لما يصلي وراءه ويبايعه.
عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله (ص) :" والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل عيسى ابن مريم فيصلي خلفه" .
كل الأحداث والوقائع التي ستجري تباعا وتزامنا مع ظهور المهدي، تجعل قناعة الناس بدولته أكبر، وتفقد قوى الباطل شعبيتها المزيفة. لأن الناس ترفض بطبيعتها أهل الباطل، وهي لا تنقاد إليهم إلا إذا أجبروها على ذلك الشكل من الاستعباد بقوة البطش والابتزاز. فإذا تحولت سلطة السيف إلى المهدي ولم يعد في أيديهم ما يصلح للابتزاز، تحول الناس طوعا إلى حكومة العادل وتركوا الباطل بلا رجعة. فتكون الأغلبية خيرة، لأن الأغلبية بإنسانيتها خيرة، وكذلك الأغلبية برسم التهميش والفقر والاستضعاف ستدرك قيمة العدالة الموعودة. وتدرك أيضا أن دولة المهدي سوف تحتكر العنف العالمي على أساس مشروع العدالة الإنسانية. هذا بالإضافة إلى عدالة الإمام التي تضمنها عصمته بوصفها أعلى مدارك العدالة. فلا عدالة فوق عدالة المعصوم. بل إن قومة المهدي لن تكون إلا بعد أن يصبح الناس مؤهلين لاستيعاب أزمتهم وانحطاطهم فتتجه أفئدتهم لنموذج آخر جديد وحاسم. وهذا يتحقق على خلفية تفاقم خيبات الأمل وانسدادات الفكر السياسي وبداية التطلع إلى طريق ثالث حتمي لكنه مستحيل في ما بين يد البشر من مقدمات مضادة. فحينما تملأ حكومة المهدي ثغرات النظم السياسية سيدرك العالم أنه الأعدل لا محالة. بل سيدركون متأسفين أنهم كانوا ظالمين لأنفسهم أو كانوا مخدوعين عبر تاريخ من الجهل والطغيان والانحطاط السياسي. إن حكومة المهدي قد تستوعب كل إيجابيات نموذج المستبد العادل وكل إيجابيات الديمقراطية، لكنها ستتجاوز كل ثغراتهما. ومن هنا كان لا بد للناس أن يجربوا إيجابيات المستبد العادل والديمقراطيات وأيضا يقفوا على ثغراتهما ليدركوا قيمة حكومة المهدي. فقوة دولة الموعود هي قوة نموذجه. ورعب المهدي هو ضد حراس ثغرات نموذج المستبد العادل وثغرات الديمقراطية التي هي سبب بؤس الإنسان وعامل تدمير للعدالة الإنسانية. ليس فقط أن دولة المهدي هي تجاوز للنظم السياسية الوضعية، بل هي تجاوز للتطبيقات الفاسدة للنظم الدينية وثورة على التحريفية. فهي نموذج مستقبلي وليست نموذجا سلفويا.
ففي غيبة النعمان ذكر رواية التيملي، قال: حدثنى أخواي محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، وعن جميع الكناسي جميعا عن أبي بصير، عن كامل، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: " إن قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإن الاسلام بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدا، فطوبى للغرباء ".
وكذلك، أخبرنا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال: " الاسلام بدا غريبا، وسيعود غ؟؟؟ ا كما بدا فطوبى للغرباء، فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله، فقال: [مما] يستأنف ا؟؟ اعي منا دعاء جديدا كما دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) " .
دولة العدالة ودولة الوفرة
ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئن النفوس وتندك الفوارق الباعثة على كل أشكال الصراع والاستغلال. بل هي أيضا دولة الوفرة الحقيقية القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقي وليس الطبقي. لقد كانت دولة علي بن أبي طالب هي المجلي الحقيقي للأزمة التي ظهر أن ليس لها مخرج إلا في دولة الموعود. وذلك حينما قال في النهج:
" الله الله في الطبقات السفلى من الناس".
أو لما قال أيضا:" ما رأيت من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع".
أو لما قال:" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"
وقوله:" وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها. وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع".
إن دولة الموعود تؤكد على أن لحل مشكلة الفقر وإدخال البشرية في حالة من الاستقرار المادي والاستهلاك الجماهيري الحقيقي، يقتضي الأمر النهوض بجملة عوامل بدءا بترشيد أمثل لنمط الانتاج وعدالة قصوى في التوزيع وثروة هائلة تكفي حاجيات المستهلكين. فهي تناهض الظلم الاجتماعي في التوزيع والظلم القائم على نمط الانتاج وأيضا تناهض اقتصاد الندرة وتعد بمستقبل الوفرة الاقتصادية للنوع.. ولذا فإنها أكدت على وفرة الموارد وتغيير النموذج وتأمين النفوس واعادة الاعتدال الى النفوس، حيث ان من أسباب اهتزال العدل هو فقدان العدل في النفس وشيوع أنماط انتاج فاسدة سرعان ما جعلت الاقتصاد ينمو بخلق حاجيات وهمية على حساب سلامة الاجتماع والبيئة، فيصبح الانسان خادما للاقتصاد وليس العكس. إن دولة الموعود تخطئ كل التوقعات التي تقررها الهيئات والخبراء في مجال الاقتصاد والبيئة. إن التوقعات تشير إلى تراجع في الموارد الطبيعية. إحدى أهم المؤشرات تؤكد على نضوب مهول في مصادر الطاقة، مضافا إلى ارتفاع معدل التصحر مضافا إلى أزمة المياه وارتفاع الحرارة وتراجع المساحات الخضراء، وبالتالي تقلص مصدر الاكسجين ، ويزداد الامر سوءا حين الحديث عن ثقب الاوزون والمشاكل التي يسببها التلوث المستدام والتخريب الممنهج للبيئة دون أن نتحدث عن مخاطر الاقدام على حرب نووية. إننا حسب هذه التوقعات أصبحنا أمام مستقبل كارثي للكوكب، فكيف تكون دولة الموعود لا تزال تعدنا ببيئة نظيفة وموارد هائلة كما لو كانت كل هذه التوقعات مجرد هواجس خرافية ليس لها رصيد من الحقيقة. والحق أن الانسان ما يزال بصدد ترميم ما أمكنه من أزماته. حتى أنه ما أن يحل مشكلة حتى يغرق فيما هو أنكى وأمر. ففي الفكر السياسي ما زالت الديمقراطية التي باتت أمل المجتمعات الرازحة تحت نير النظم الفردية والطغيان السياسي، هي نفسها مصدر استغلال لا يزال يحول دون السعي إلى بدائل يفرضها الاحساس بعدم انسداد الآفاق أمام نظم أكثر ضمانا للحرية والعدالة. وكذلك ظلت البشرية في مستوى الاقتصاد السياسي رهينة تصورات خاطئة في تقدير الثروة ورهينة انسدادات في تدبير الموارد البشرية. على الرغم من كل المعارضة التي أبداها نقاد الاقتصاد السياسي ضد النسق الرأسمالي اللاأخلاقي، استطاعت الرأسمالية أن تنتصر في نهاية المطاف، باعتبارها النظام الأكثر قدرة على الصمود حتى الآن رغم ما يحمله في طياته من أزمات بنيوية. لعل انتصار الرأسمالية على كل مناهضاتها بما في ذلك نقيضها الأشرس، المعسكر الاشتراكي، دليل على أننا وصلنا عصر الانسداد. اذا كان فوكوياما رأى في هذا الانتصار تكريسا لليبرالية وتوابعها ـ في مقدمتها اقتصاد السوق ـ بعد أن غطى على كل أزماتها البنيوية، فهو لم يفعل أكثر من أن يقدم شهادة على هذا البؤس الذي يشكل ظاهرة عالم يعيش يوما بعد يوم على إيقاع فريد من التفقير. يتساءل كبير الرأسماليين المضاربين جورج سوروس كيف أمكن هذا النظام الاستمرار حتى اليوم. فانهيار " السوق العالمية سيكون حدثا يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور هذا الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن" .
لم يهزم النظام الرأسمالي المهيمن معارضيه ،على فظاعة توحشه، لأنهم لا يحملون البديل القادر على الإحلال محله بجدارة، ولا لأنهم حاربوه بوسائل أقل نظافة منه. بل لعله حاربهم بأقذر ما لديه. من المؤكد أن الأزمات التي واجهت الرأسمالية كادت تعجل برحيلها لولا التدخل السافر للدولة في حمايتها وتمكينها. لم تكن الرأسمالية حقا مساوقة للطبيعة إلا إذا اعتبرنا تشجيعها على الجشع وعبادة المال والنزعة الأنانية هي هذه الطبيعة الانسانية التي تزعم الرأسمالية مسايرتها. وقد صدق جورج سوروس حينما عزى انتصار الغرب إلى أمر آخر غير رأسماليته. ففي رأيه أنه " من المناسب أن نعزو انتصار الغرب إلى حقيقة أنه مجتمع منفتح أكثر من كونه مجتمعا رأسماليا" .
لم تستطع الماركسية على الرغم من أنها قدمت تحليلا نقديا للنظام الرأسمالي لعله الأهم من كل النقود، لأنها لم تستطع أن تضع اليد على المشكل الحقيقي، وهو أن النسق الرأسمالي بما أنه نسق متكامل يستطيع أن يحتوي أزماته بما في ذلك الأزمات التي تصورتها الماركسية عللا تامة برسم نظرية الأزمات. هكذا استطاع هذا النظام تحييد أو تعطيل النشاط البروليتاري وصرفه عن فكرة التموقف التاريخي الجذري من النظام الرأسمالي. كما طورت الرأسمالية الكثير من أساليبها، ما أبطل مفهوم الثورة الشيوعية التي لم يعد لها أي معنى لا سيما بعد انهيار معسكر كامل قام على أساسها. حاولت الماركسية أن تجد الحل في التطور الطبيعي للرأسمالية الذي ينتهي بها إلى حتمية الانفجار. لكن الرأسمالية عرجت على مسارات أخرى جنبتها كل المخاطر التي تكهنت بها الماركسية. الأمر يتعلق بالأثر الأوديبي بالمعنى الذي ذهب إليه بوبر في إبطال النبوءة. إن القيم الأخلاقية الماركسية التي استقوت بها الحركة الماركسية في نضالها ضد النظام الرأسمالي لا يمكن أن يدان بها هذا النظام، لأنه لم يستدعيها منذ النشأة الأولى ولا يمكن محاكمته بشيء لا يعنيه في صميم النسق. كان لا بد على الماركسية أن تبحث خارج هذه المنظومة عن سند تستقوي به في إعلان ثورتها. لقد استندت على الضمير الداخلي للرأسمالية فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الاخلاقي في الاقتصاد. ولأن الماركسية نفسها راهنت على الرأسمالية في استدماج كل الانماط الأخرى ما قبل الرأسمالية انتظارا لانسدادها الحتمي. مع ذلك كان للاجهاز على الحقيقة الدينية الدور الأكبر في جعل الماركسية عاجزة عن إيجاد ضامن أخلاقي. يتساءل أندره كونت سبونفيل إن كانت الرأسمالية أخلاقية. سيضطر هذا الأخير رغم إلحاده غير المبرر أن يسلك طريقا كانطيا لإحلال الاخلاق المجردة أو القانون الاخلاقي محل الدين كضامن من خارج النسق لنوع من الاخلاقية ـ ethiqueـ بدل الاخلاق ـ moral ـ. بين الاخلاق كفعل للواجب وبين الاخلاقية كفعل باعثه الحب. هذه عودة مبطنة للقيم الدينية نفسها مع تمثل حالة من خفة اليد. أي خلع كل صفات وقيم الدين على هذا الشكل المثالي من الاخلاق. يعيدنا ذلك إلى النكتة نفسها التي واجه بها شوبنهاور القانون الأخلاقي الكانطي. أخلاق بلا ضمانات. لكن كان رأي هذا الأخير صائبا في فضح انسداد النظام الرأسمالي الذي جعل إنماء الثروة ليس فرصة للفقراء المحتاجين، بل هي فرصة سانحة فقط للاثرياء. أليس هذا هو مبدء بيروث: المال يولد لمال. نعم. وإذن صح قول الباحث:" أفضل وسيلة لكي تصبح ثريا في بلد رأسمالي هو أن تكون ثريا" .
نحن أمام تحصيل حاصل. إنماء وحشي للثروة قد يتيح منافذ وفرصا على المستوى الفردي تستطيع أن تتباها بها الرأسمالية المخاتلة لإغراء الغالبية العظمى التي رسم لها سقفا من الاحلام لن تخرج منه أبدا. لكنها الكارثية على المستوى الجماعي. يجب على الأغلبية الساحقة في هذه السوق الداروينية التي تبتلع الصغار والمتوسطين باستمرار أن تتطلع لتعمل أكثر ولكن في الوقت نفسه عليها أن لا تصل إلى مبتغاها حتى لا تتحسن أحوالها لتبرح نطاق الشغيلة.
غياب العدالة وسورة الأزمات البنيوية للاقتصاد الرأسمالي وتكاثر السكان وتراجع الموارد وتلوث البيئة وانفجار وضعية الشركات العابرة للحدود في ظل عولمة جارفة لكل أشكال القوانين التي تحمي نظم التكلفة السياسية والاجتماعية والبيئية، كل هذا يعني أن الفقر هو صناعة رأسمالية بامتياز. إن الانسداد الأعظم لم يطال الفكر السياسي فحسب، بل إننا أمام ضرب كارثي من الانسداد الاعظم في الاقتصاد السياسي. على الرغم من أن تساوي البشر في معدل الاستهلاك الجنوني وتحول الأمم جميعا إلى مصاف الأمم المصنعة الكبرى يظل حلما ساذجا في ظل الشروط المجحفة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول الفقيرة أو تلك السائرة في طريق النمو ـ ذلك لأن الأمر لا يتطلب كثير تأمل ـ فالفقر والتخلف هو الذي يؤمن الهامش الأمثل للمركز. إننا جميعا جزء ضروري ووظيفي للرأسمالية. فهي لا تقوم بالمركز فقط، بل تكتمل بوجود هامش مهدور المصير. وهذا الأخير ليس مسألة جزافية، بل هو صنيعة النسق الرأسمالي الذي بقدر ما يتيح للمركز نموا مضطردا فأيضا يعمل على تأميل تفقير مضطرد للهامش. لكن دعنا نحلم قليلا مع هذا النظام ونسايره في أحلامه تلك. فحتى لو أصبحنا جميعا في هذا العالم مصنعين في مستوى الدول العظمى فإن ذلك سيكون كارثة على البيئة لا تتحملها البتة. إن نمط الانتاج ونوع الطاقة المستهلكة اليوم في هذه الصناعات تنذرنا بمستقبل كارثي. لا يوجد من يخطئ هذه الحقيقة حتى من أولئك الذين يتحايلون للامتناع عن دفع التكلفة البيئية. إن الطبيعة كما يقولون متسامحة تتحمل كل الاختلال البيئي الناتج عن التدخل الخاطئ للانسان وسوء تدبير الموارد الطبيعية. يقولون أيضا إن الطبيعة ستعود لتوازنها متى كف هذا الأخير عن التدخل. نقول هذا مؤكد ما لم يستمر الاستنزاف. ولا ندري هل حقا نحن أمام ذلك المصير أو المستقبل المشترك الذي بشرت به التنمية المستديمة، وهل في سياق هذا التدبير الخاطئ والجنوني للبيئة سنسمح للأجيال القادمة ببعض من هذا الامتياز. هذا حقا لا يهمنا الآن بقدر ما يهمنا الوقوف عند فكرة التسامح البيئي وعلاقة ذلك بالجواب عن وضعية دولة الموعود. لا نريد أن نضع أرقاما لتوصيف الحالة المزرية للطبيعة اليوم ولا ما هو متوقع غدا. لكن السؤال الذي يظل مطروحا: هل دولة الموعود تستطيع أن تفي بكل وعودها في مستقبل ينذر بالمأساة البيئية. قد يكون لفكرة التسامح البيئي قدرة على تفسير ذلك. لكن ماذا لو لم يعد في مكنة الطبيعة أن تغفره للانسان بعد أن تنفذ مواردها أو يفسد مناخها بصورة لا تطاق. هذا إنما يفيدنا، بأن دولة الموعود سيكون لها موعد مع العالم قبل استفحال الوضع البيئي بصورة لا رجعة فيها ولا تسامح. إن الطاقة اليوم تعد بنضوب، وحسنا أن يكون ذلك سببا في انطلاقة جديدة للبحث عن طاقة بديلة ونظيفة. إن مظاهر دولة الموعود تؤكد على أنها دولة تنعم بآخر مستويات التقنية النظيفة. بل إن كل ما تعد به يؤكد على أنها دولة تخضع لنمط اقتصادي مختلف جذريا، بحيث لا مكان لنظرية التفقير والأزمات وما شابه ذلك. وبالتأكيد لا مجال لأي شكل من أشكال الملتوسية هنا، ما دامت الموارد ستتضاعف في نموها أكثر من الحجم السكاني. إن دولة الموعود تؤكد على أن الموارد ستظهر بشكل لم يسبق له مثيل. فالمستقبل واعد بالرفاه. لذا علينا أن نتأمل بعضا من تلك الروايات التي تقول مثلا :
ـ أخرج البخاري عن أبي هريرة أن الرسول ـ ص ـ:" لا تقوم الساعة، حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته. وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه : لا أرب لي به".
ـ أخرج الحاكم عن أبي سعيد، عن الرسول ـ ص ـ " يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة".
ـ روى الصدوق عن الامام الباقر:" القائم منا منصور بالرعب مؤيد بالنصر تطوي له الأرض وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الارض خراب إلا عمر".
ـ يروي المجلسي قول علي بن أبي طالب:" ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ولأخرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه".
ـ يروي الشافعي عن أبي سعيد الخدري عن الرسول ـ ص ـ :"تتنعم أمتي (في عصر المهدي) نعمة لم يتنعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدرارا ولا تدع الارض شيئا إلا اخرجته".
ـ في عقد الدرر عن النبي ـ ص ـ :" وتزيد المياه في دولته وتمد الانهار وتضاعف الارض أكلها".
مثل هذه الروايات ونظائرها فاضت بها المتون الاسلامية، يجب استيعابه خارج اللغة والنمط الحضاري الذي ذكرت فيه مثل هذه النبوءات. فأفضل وسيلة لمزيد من الاستيعاب هو إعادة تأمل مضامينها في ضوء النموذج الحضاراتي المعاصر. إنها قضايا موجهة لنا أكثر مما هي موجهة للأسلاف. ومن هنا فمثل هذه المظاهر تؤكد على أن دولة الموعود غير معنية بالتكهنات آنفة الذكر، تلك التي تنذر بعودة الندرة والتلوث والفقر والمجاعة والمستقبل الكارثي للانسان. إنها تؤكد بذلك على أنها باراديغم مختلف تنتهي معه رحلة الاجتماع السياسي وتقف عنده أيضا محاولات الاقتصاد السياسي. إن المستقبل البشري والاجتماع السياسي الانساني لا يمكن أن يقرأ بصورة إيجابية فيما تؤكده تقارير تنتمي إلى العقل السياسي والاقتصادي الذي بات واضحا أنه لا يملك ما يقوله عن المستقبل سوى ذلك الشكل من التحذير والترهيب. لكن يظل دائما السؤال الذي يطرح و طرحه مشروع، حول إمكانية إعادة تطهير الاجتماع الانساني والبيئة من الفساد في دولة الموعود؟
ندرك أن العملية لا تقتصر على أحياز ضيقة ولا حتى على حيز المؤمنين. الامر يطال الكوكب برمته ومن عليه. لا ننسى أن دولة الموعود هي كونية. وعملية كهذه ليست محصورة ويسيرة، بل هي انقلاب حضاري وبيئي سيجعل العالم أمام نمط مختلف عن كل ما سبقه. إنها ثورة الانسانية المنتظرة بقيادة الموعود. قراءة الاخبار في شموليتها تؤكد على أن ارتفاع معدل الأمن إلى أقصاه وغياب الندرة ونهاية سلك الأزمات البنيوية في الاقتصاد وشعار دعه يعمل دعه يمر الذي لن يظل كما في النظام الرأسمالي شعارا لطبقة من المتنفذين وأيضا ليس شعارا يتحلل به المستثمر من كل التزاماته الاجتماعية والاخلاقية..كما يؤكد على ارتفاع في مستوى التحسن البيئي ونظافة وسائل الانتاج وتغيير نمط الاستهلاك وكل هذا مع وجود عدالة كافية لتوزيع الثروة بالقسط، جدير بخلق مناخ صحي لانطلاق اقتصاد كبير وتحقق قدر هائل من الوفرة للنوع.
ثمة كما أكدنا تحولات جذرية ستطال الثقافة والأنماط. وهي كما يظهر من الاخبار
تتحدد في:
أنماط استغلال البيئة
يتقوم النمط الراهن في شكل ضار من الاستغلال للبيئة بلغ ذروة الشطط. والمسألة البيئية اليوم والتقارير التي تطلع علينا ليل نهار دليل كافي على أن الأمر لم يعد يتحمل مزيدا من الاستهتار.لا سيما وأن معدل أوكسيد الكاربون يتزايد بصورة جنونية مهددا البيئة وهو مسؤول عن درجة ارتفاع حرارة الارض والتأثير السلبي على طبقة الأورزون وما ينتج عن ذلك من فيضانات وحرائق للغابات والتصحر...في مقابل ذلك تنهض دولة الموعود على سياسة مختلفة وجادة في هذا المجال، قوامها: الاستغلال الأمثل للطبيعة والاستغلال الأنظف للطاقة.
إن استغلالنا للطبيعة لا زال ضعيفا للغاية بحيث لا يغطي الطلب. ومثل هذا لا يشكل أزمة حقيقية في نمط الانتاج المعاصر طالما أن معضلة المجاعة لا تصيب إلا الطبقات السفلى من المجتمع أو المجتمعات الفقير في العالم. فأنماط الانتاج الراهنة ليس فقط أنها تواجه مشكلة تقنية في تأمين الطلب الحقيقي للنوع، بل إن السياسات الانتاجية تفرض عبر سلطة الاحتكار أن لا يتم البحث عن بدائل لا في التكنولوجيا ولا في أنماط الانتاج، من شأنها أن تهدد بنية الارباح والامتيازات التي تحرسها سياسة الاحتكارات الكبرى.
أنماط الاستهلاك
اذا كان نمط الاستهلاك اليوم هو تعبير عن منتهى غياب ليس الاخلاقية فقط عن الاقتصاد بل العقلانية التي طالما بشرت بها السوسولوجيا الحديثة. لقد تجاوز نمط الاستهلاك المعاصر كل الحاجيات الحقيقية للانسان، بل كدنا نرى انقلابا في سلم المقاصد العقلائية للنوع، منذ أصبح الانسان برسم الاستهلاك الجنوني اليوم يستهلك من السموم والأزبال ما يعرض الصحة العالمية لوضعية حرجة. لم يعد في معايير المستهلك أن ثمة ضروريات يجب أن تفوز بالمقام الأول في الاعتبار. فالتحسينيات استوعبت باقي القيم، لا بل إننا أصبحنا أمام شكل هجين من الضروريات؛ ضروريات وهمية تنتج باستمرار، تؤمن صيرورة الاستيلاب الامثل للانسان، تجعله كائنا عاجزا عن وجود ذاته واستقلاله ومعناه خارج هذه الدورة العدمية للاستهلاك اليومي. يحدثنا طويلا جون بودريار عن هذه الحقيقة بصورة أكثر كاريكاتورية، حينما يحاول أن ينجز تشريحا لما يسمى بـ"homo oeconomicus". الحكاية مصاغة كالتالي:
" كان في وقت ما انسان يعيش على سبيل الندرة. ومن خلال العديد من المغامرات والأسفار عبر العلوم الاقتصادية التقى مجتمع الوفرة. فتزوجا وأصبح لهما الكثير من الحاجيات" .
هذه الجمالية نفسها التي كان يتمتع بها الاموـ ايكونوميكوس، كما تغنت بها الحكايات الكلاسيكية لم تعد موجودة في هذا المناخ الجنوني الذي تحول فيه الاستهلاك من أمر نحدده ونبحث عنه إلى أمر مفروض في الصيرورة المحتومة لهذا النمط الاستهلاكي الذي منح قوام الكوجيتوا الجديد: أنا أستهلك إذا أنا موجود. بل أصبح الأمر غاية في التفاهة: أرني قمامتك أقول لك من تكون. الاستهلاك للاستهلاك، تلك هي عقيدة شخص آخر يبشر به هذا النمط الخطير من الاستهلاك، أعني ما أسميه بالكائن الأونطو ـ ميتري. كناية عن كائن تتحدد أنماطه ومصائره بحسابات الانتاج والربح والخسارة والعرض والطلب. كائن تحدد ماهيته قبل وجوده، بل يبرر وجوده باكتمال ماهيته وقابليته للاندماج في دورة اقتصادية لا وجود لبداياتها ولا لنهاياتها. إنها دورة لا تقبل إلا بالمسوخ.
إن دولة الموعود بما أنها تلخص آمال البشر ومتطلبات الرشد البشري، كفيلة بإحداث هذا الانقلاب الأعظم في نمطية الاستهلاك. هذا أمر ممكن جدا ما دام أن هذا النمط من الاستهلاك هو الابن البار لنمط الانتاج والنسق الرأسمالي المتوحش نفسه. وهذا سيعد بعودة العقلانية في الاستهلاك يتحرر بموجبها الانسان من سطوة التشيء والاستيلاب. حيث يصبح الاستهلاك تعبيرا عن حاجيات حقيقية وعقلانية لا مجرد انخراط في دوامة غير معقولة من الاستهلاك للاستهلاك. ويتقوم ذلك أيضا بتخليق الاستهلاك، وهو ما يجعل الاستهاك أيضا في خدمة الانسان ويعزز ماهيته ككائن خلق للتسامي العقلي والروحي وليس كائنا يبحث عن منتهى متعته في متاهة الاستهلاك والتشيئ والاستيلاب كما تتحدث اليوم فلسفات الانسان. ولعل القواعد المنظمة لهذا النمط التخليقي من الاستهلاك هي :
ـ لا تستهلك إلا ما كان ضروريا حقا أو حاجة تجد فيها كمال العقل والروح وسلامة البدن..
ـ لا تستهلك للاستهلاك..
ـ لا تستهلك ما فيه فساد البدن والروح والعقل..
ـ لا تستهلك ما ليس في مقدور أغلبية الناس استهلاكه..
هذا القدر من المحددات لا يتحقق إلا في ظل دولة الموعود لاكتمال أخلاقها ونمو مداركها العقلية والروحية. إن ما تكشف عنه هذه الدولة من خيرات لا يعني أن الاستهلاك أضحى أكثر جنونية. بل إن الانسانية يومها مشغولة فيما هو أعظم من ذلك. أعني ذلك المعنى الانساني السامي الذي يجعل الناس تكتفي بحياة التقشف رغم الوفرة، لأن ما سيأتي به الموعود ليس مجرد كنوز لن يجد لها طالبا من فرط فائض الانتاج، بل قيمة ما سيأتي به أنه سيحرر الانسان من مقولة أنطوان مونتكرتيان :"
إنما الانسان ولد لكي يعيش للعمل المستمر والاحتلال" إلى المعنى الأسمى للانسان بوصفه خلق لعبودية الخالق لا لعبودية القطاع والعمل في ظروف مزرية. كما خلق لتعمير الأرض لا للاحتلالات الجائرة التي تستعبد في طريقها الأمم وتخضع لقوانين التخليف والتفقير. أجل إن زمان الموعود زمان مختلف، وذلك لأن أنماط السلطة ستشهد تحولا جذريا. لا عجب في ذلك إذا تأملنا قولة لجده علي بن أبي طالب في النهج:" إذا تغير السلطان تغير الزمان".
وعليه ستكون دولة الموعود خاتمة المطاف في تاريخ النوع وليس بعدها من نموذج جدير بالانتظار. إنها نهاية تاريخ الاجتماع السياسي والنموذج المأمول. ذلك هو الحد المعروف من مستقبلنا المشترك.
ختاما
لدي شئ أقوله في نهاية هذه الورقة: إن البحث عن حلول لإنسانيتنا من داخل صيرورة الهدر التي يفرضها النسق المتغلب في حياتنا هو أمر مشروع ومطلوب لإيجاد ما هو أمثل دائما من داخل النسق. لكن هذا لن يحل مشكلة البشرية المتأرجحة في أزمات بنيوية. قد يتراءى للبعض أننا نحلم، لكن حلمنا هو واقع مؤجل يملك من المسوغات والضمانات أكثر من أي خيار آخر. إن ما بين أيدي الناس اليوم سياسات واقتصادات لا تملك إلا أن تصنع الجور والفقر، ولا تملك إلا أن تنذر بمستقبل مظلم وكارثي ملؤه الرعب واليأس. وأمام هذا القدر المحتوم لأنظمة سياسية واقتصادية، ليس أمام البشرية المعذبة إلا أن تحسن الإطراق والسمع لذلك النداء الذي لا يحمل سوى بشرى جميلة للاجتماع الانساني. وإن
دولة الموعود حتما لن تحرر المظلومين من شخوص ظالمين فحسب، بل ستحررهم من نموذج ظل فيه الظالم والمظلوم كلاهما ضحية نموذج فاسد، جعلهما حقا في حاجة ماسة إلى ذاك المخلص.
https://ayandehroshan.ir/vdcj.hevfuqevasfzu.html
ارسال نظر
نام شما
آدرس ايميل شما