تاریخ انتشاريکشنبه ۱۸ مرداد ۱۳۹۴ ساعت ۱۴:۱۲
کد مطلب : ۱۲۰۹
۰
plusresetminus
ولاية الفقيه والأبعاد الكونية للتحقق المهدوي
دراسة فلسفية سياسية
الدکتور محمد عبداللاوي

منذ قيام الثورة الاسلامية و الغرب يقف موقفا شرسا من إيران لأنه يدرك أن النظام السياسي الإسلامي يمارس سياسة الآفاق، أي سياسة التمهيد و المشروع و ليس سياسة التسيير اليوم لليوم، فالتمهيد تهديد، أي هو النقيض العقائدي و الوجودي و الأخلاقي و التاريخي للمارسة الغربية للسياسة.
1-المسؤولية الكونية بقيادة ولاية الفقيه
إن موقع الأمة و القيادة في التاريخ هو عصر بأكمله، هو عصر الغيبة. هذا الموقع يتضمن وجود قيادة لها خصوصيتها: هي "نيابة". و يتضمن على الصعيد الشعبي وجود و عي عقائدي وتاريخي تفعله الرؤية رؤية مستقبلية عقائدية. هذه الظاهرة أو الحالة تقتضي مسؤولية على صعيد عصر و تقتضي، تبعا لذلك، فعلا على صعيد عصر بأكمله. هذا هو حجم القيادة و حجم المسؤولية و حجم التمهيد. إن التمهيد جعل الواقع الإيراني منذ قيام الثورة الاسلامية وضعا رساليا استبطن فيه الشعب الإيراني مسؤوليته على مصير إيران ومصير الأمة الاسلامية، عن اقتناع عقائدي باطني.
فباسم أي مبدأ يضحي الشعب الإيراني اليوم من أجل الآخرين ومن أجل الأجيال المقبلة، من أجل البشرية كلها؟ كل فلسفات التاريخ و فلسفات التقدم عجزت عن الإجابة على هذا السؤال: باسم أي مبدأ يضحي هذا الجيل من أجل الأجيال المقبلة. خاصة إذا كانت نتائج هذه التضحية غير مضمونة. في حين أن الأمر ليس كذلك عندما نكون في سياق التمهيد. فهنا مرجعية الإلزام والإلتزام ضرورية وكافية والنتائج مضمونة عقائديا في الدنيا والآخرة. ومن هنا إلزامية التمهيد وإلزامية المسؤولية.
نموذجية مسؤولية الشعب الإيراني اليوم أمام التهديد الغربي كتهديد وجودي يسعى إلى تفتيت هوية الأمة الإسلامية. فالمسؤولية هنا هي مسؤولية عن عصر هو عصر الغيبة، أي مسؤولية عن مستقبل البشرية، ولا يمكن فهم حقيقة هذه المسؤولية عن طريق فلسفات الأخلاق القائمة على نسبية القيم، و ذلك رغم كل المحاولات الأخيرة، التي تميز بها المفكر Hans Jonas خاصة في كتابه: "مبدأ المسؤولية" و كتابه: "من أجل أخلاقية للمستقبل" . فسؤال إلزامية القيم التي يضحي على أساسها الجيل الراهن من أجل الأجيال المقبلة هو سؤال يبقى مطروحا و بدون إجابة كافية، والشعب الإيراني هو الذي يجيب اليوم بقيادة ولاية الفقيه، يجيب عن طريق التمهيد وما يحيط به من تحديات: حروب وكل انواع الحصار ومؤامرات.
إجابة الشعب الإيراني عن طريق التمهيد هي إجابة تجسد المسؤولية الكونية التي استوعبها الشعب الإيراني بصورة كربلائية بفضل مرجعية القيم كمرجعية ضرورية وكافية، أي تكفي نفسها بنفسها.
ومعنى هذا أن الفكر الاجتهادي الذي يقود علية التمهيد لم يتجاوز فكر عصر الانحطاط فحسب، ولم يتجاوز الاتجاه الاخباري فحسب، بل تجاوز الفلسفة من أفلاطون وأرسطو إلى الغزالي وابن رشد إلى هيجل وما بعد هيجل. فالفلسفة الغربية انهارت بعد سقوط المطلقات. الفلسفة في الغرب اصبح دورها لا يتجاوز حدود أزمتها وأزمة ما بعد الحداثة على العموم، فالفكر الفلسفي الغربي تحول إلى فكر اجتراري، أي اصبح مسجونا في دائرة الموت و النهايات: موت الإيديلوجيا وموت السياسة وموت الطوباوية و موت الثورة ونهاية التاريخ، اي اصبح الفكر الفلسفي الغربي فكرا يشرح الأزمة كواقع لا يمكن مجاوزته.
والأمر ليس كذلك في الحقل النظري الاسلامي الذي تجسده إيران اليوم حيث تحولت الفلسفة إلى فلسفة التمهيد بقيادة ولاية الفقيه. اي قيادة فكر ذو مرجعية لا تنفذ: إلاهية القرآن الكريم و عصمة النبؤة والإمامة.
فالبشرية اليوم أمام نوعين من الفكر: الفكر الغربي بقيادة فلسفة هيجل بصورة أو بأخرى و الفكر الاجتهادي بقيادة ولاية الفقيه. فلا بديل اليوم بين فلسفة هيجل المؤسسة والمبررة للتحديث ولعداء الغرب السياسي تجاه الأمة الإسلامية و بوجه أخص تجاه إيران، و الفكر الاجتهادي المؤسس للتمهيد أي لتحرير المسلمين و البشرية كلها من أزمة الفكر الغربي ثقافيا و أخلاقيا و سياسيا.
إن المسؤولية الملازمة للنظام السياسي في إيران ليست مسؤولية قائمة على القفز في المجهول أو على الرعب من المستقبل بعد انهيار فلسفات التقدم: المسؤولية قائمة على التمهيد أي على علاقة ثقة بالمستقبل لأن المستقبل هنا مجرد تخمين فلسفي أو خيالا و طوباوية، بل هو مستقبل موعود عقائديا، ومن هنا خصوصية المسؤولية، فالمسؤولية الملازمة للتمهيد ليست على غرار المسؤو لية في فلسفات التقدم، ليست قائمة على عقلانية مضطربة و مهزومة يحيط بها العبث وتحاصرها عدمية النسبية بسبب غياب المرجعية الحقيقية. فالمسؤولية الملازمة للتمهيد و المسؤولية التي يجسدها التمهيد هي مسؤولية تقوم على عقلانية صارمة و تطلع روحي عميق: تقوم على معنى الوجود ومعنى الانسان في الوجود ومعنى التاريخ.
إن ولاية الفقيه توعي الشعوب الإسلامية بمسؤوليتها أي بوجوب تغيير وضعيتها انطلاقا من مرجعية عقائدية تكفي نفسها بنفسها. اي مرجعية ضرورية وكافية. لكن هذه المسؤولية ليست مسؤولية عن حاضر فحسب بل هي مسؤولية عن المستقبل لأن فعل المسؤولية تمهيد وليس مجرد تغيير للوصول إلى مرحلة أو مستوى من التقدم فحسب، فالتمهيد هو تمهيد لهدف معروف مسبقا بصورة عقائدية، و من هنا يمكن القول بأن ولاية الفقيه تقدم اليوم الأساس و المرجعية الأخلاقية المستقبل ليس بمعنى الأخلاق في المستقبل، أو الأخلاق كما نتصورها بالنسبة للأجيال المقبلة بل تقدم ولاية الفقيه الأساس و المرجعية لأخلاق تهتم بالمستقبل و تولي الأهمية لفعل ومسؤولية الجيل الراهن من أجل الأجيال المقبلة، فالتمهيد يستقطب كل معاني وأبعاد المسؤولية لأنه اهتمام بالحاضر و بالمستقبل و مسؤولية على الحاضر و على المستقبل لأن الظهور هو ظاهرة مستقبلية حتى و لو كانت إ مكانية تحققه في الحاضر حاضرة. فالتمهيد ذو مخزون مستقبلي منقطع النظير، و المسؤولية في إيران اليوم قيادة وشعبا هي مسؤولية في مستوى هذا المستقبل و في حجمه: هي مسؤولية على كل مستقبل البشرية.
لا وجود اليوم لشعب يمتلك هذه الطاقة الأخلاقية وهذا الدور الكوني مثل الشعوب الإسلامية التي يجسد إيران حقيقتها، ولا وجود لشعب يتحمل مسؤولية كتلك التي يتحملها الشعب الإيراني ولا وجود اليوم لقيادة كونية و ذات مسؤولية كونية ودور كوني مثل ولاية الفقيه.
كل الشعوب و كل الأنظمة السياسية تهيئ للمستقبل وتمهد لهدف أو لمشروع. مثلا: الاشتراكية الماركسية خاصة تمهد للمجتمع اللاطبقي، فقبل سقوط جدار برلين وقبل أزمة الديمقراطية الليبرالية الأمريكية كان الغرب يهتم بالمستقبل و يمهد لهدف. ولكن اليوم انهارت فلسفات التاريخ، بل حتى الطوباوية ماتت و زالت فزال التطلع نحو الآفاق وماتت الثورة و تحول التطلع نحو المستقبل إلى رعب من المستقبل، والأمة الإسلامية هي الوحيدة اليوم التي تمتلك طاقة التطلع إلى المستقبل والآفاق و تمهد من خلال إيران للمستقبل كمشروع عقائدي و ليس بمجرد الإعتماد على تسلسل الأسباب والنتائج فحسب، بل من خلال تطلع عقائدي مثالي وواقعي في نفس الوقت يتجاوز العلاقة السببية بين الحوادث دون نفيها ليتطلع إلى الإمداد الغيبي.
الشعب الإيراني اليوم ينتظر الظهور عن طريق الثورة والدولة بقيادة نائب الإمام الولي الفقيه، أي يمهد للظهور بصورة عقائدية تربط الفعل السياسي والتاريخي بآفاق الغيب، فهناك مسار وهناك قيادة تقود هذا المسار وهناك شعب مسؤول يلتزم بمتطلبات هذا المسار، فعلاقة الأمة بالمستقبل ليست متروكة لأي تأويل، بل هي علاقة يقودها فكر اجتهادي أي فكر يعتمد على تجربة ذات ثوابت عقائدية وليست تجربة تدفع بها حركة التاريخ نحو المجهول.
لقد أبعد الدين عن الحياة السياسية ابتداء من عصر الأنوار وتم نقد اللاهوتية والميتافيزيقا باسم العقل الوضعي، لكن في إيران هناك نموذج للعلاقة بين السياسة والدين، و هناك إعادة الحياة إلى الميتافيزيقا على صعيد الفكر وعلى صعيد الممارسة وذلك بعد نفور الفكر الحديث من الميتافيزيقا باسم العلم وباسم فصل الإنسان عن سؤال المعنى. فالميتافيزيقا بمعنى التعالي، هي وحدها التي تبرز تطلع الانسان إلى ما يجب ان يكون.
فالمرجعية الضرورية و الكافية لإلزامية المسؤولية والممارسة يجب أن تكون متعالية. فكل أنواع المرجعية الأخرى كالمجتمع والتاريخ هي ضرورية ولكنها لا تكفي نفسها بنفسها. وهذا ما يميز الحياة الانتظارية في إيران اليوم فهي حالة فعل من موقع التطلع على أساس مرجعية تكفي نفسها بنفسها، فهي ليست مجرد ظاهرة أنتجها المجتمع أو أنتجها التاريخ بل هي التي توجه التاريخ.
لقد أجابت ولاية الفقيه على صعيد الفكر و على صعيد الممارسة على سؤالين مصيريين:
1-كيف يجب أن يكون الانتظار؟.
2-وما هي مرجعية ومصدر إلزامية القيم الملازمة للانتظار كتمهيد، أي كثورة ودولة؟
وهكذا فإن أرقى وأعمق شع ور بالمسؤولية نجده اليوم وفي هذه المرحلة التاريخية عند الشعب الإيراني: فالمسؤولية هنا تتجاوز الحدود القومية والوطنية لأنها مسؤولية كونية تستمد قوة إلزاميتها وكونيتها من مرجعية تكفي نفسها بنفسها: من العقيدة ذات المصدر الغيبي وليس من مجرد العوامل التاريخية ومن المطلقات المزيفة التي انهارت وسقطت في هذا العصر، فكل الأنظمة السياسية وهي كلها أنظمة ذات مشروع أوهدف مستقبلي، لا تبرر إلزامية المسؤولية على الآخر سواء كان مجتمعا في الحاضر أو جيلا في المستقبل، فالسؤال يبقى مطروحا أما م هذه الأنظمة السياسية: باسم أي مبدأ تتم التضحية من أجل الآخر؟ وهل هذا المبدأ ملزم؟ وهل مرجعيته تكفي نفسها بنفسها؟
فالنظام السياسي بقيادة ولاية الفقيه هو وحده اليوم الذي يجيب نظريا وعمليا على هذه الأسئلة: فالشعب الإيراني يمارس مسؤوليته على مستقبل الأمة ومستقبل البشرية عن طريق التمهيد، بصورة تعبدية تتجاوز حتى الحدود الأخلاقية من حيث قوة الإلزام وقوة الإلتزام واستيعابهما واستبطانهما من طرف كل إيراني عن اقتناع داخلي لأنه اقتناع تعبدي، فالمسؤولية هنا ليست مجرد مطلب أخلاقي فحسب بل هي مطلب عقائدي:هي واجب شرعي يستمد منه الواجب الأخلاقي كل معانيه، فالمسؤولية في هذا السياق، عبادة، فالمستقبل الذي يمهد له الشعب الإيراني اليوم ليس مجرد رؤية مستقبلية تتطلبها القيم الأخلاقية فحسب، رغم حرمة القيم وقوة إلزاميتها، أو هي رؤية مستقبلية تتطلبها الرؤية الفلسفيةإلى التاريخ، فالمستقبل وعد عقائدي أي هو وعد إلاهي، ومن هنا خصوصية الإلزام وخصوصية المسؤولية وخصوصية التمهيد.
فالتمهيد يقتضي التفاعل مع حركة التاريخ على مستوى العصر أي على مستوى الآماد البعيدة، هذه المسؤولية الكونية تقتضي بدورها "الصبر الاستيراتيجي". فكل المهدويات الدينية و الفلسفية انهارت لأنها مهدويات أصيبت بداء العجلة، المهدوية الاسلامية بقيادة ولاية الفقيه هي مهدوية يقودها فكر اجتهادي يربط الجزئي بالكلي في عملية التمهيد، و يربط الحاضر بالمستقبل. أي يربط الزمن التاريخي بالزمن المهدوي، فكر ولاية الفقيه كفكر اجتهادي و من موقع " النيابة" عن الامام المهدي (عج) ليس فكرا مكبلا بهيمنة روح العصر. أي هيمنة التاريخ بمعنى النزعة التاريخية، بل هو فكر يتم داخل العلاقة بين اطلاقية النص (القرآن الكريم و السنة الشريفة) و حركة التاريخ. ففكر ولاية الفقيه هو فكر يتميز بالوعي التاريخي العميق و الواسع الآفاق و الذي يؤسس للاستراتيجية و للصبر الاستيراتيجي في أفق مشروع كوني و ليس سجين ردود الفعل الضرفية و السقوط في فخ العجلة.
في هذا السياق من علاقة الفكر الاجتهادي بحاضر الأمة كأمة متفتحة على الآفاق تتجلى مسؤولية ولاية الفقيه و تجلياتها و أبعادها: زمان الدولة الايرانية الاسلامية اليوم هو زمان المسؤولية الكبرى، أي زمان سياسي مرتبط بالزمان المهدوي، لذلك فالدولة هي دولة التغيرات الكبرى التي تقوم على النقد الجذري للتاريخ بمعناه الهيجلي، أي التاريخ كما هو، وتقوم نتيجة لذلك، بنقد روح العصر و نقد الحدا ثة و ما بعد الحداثة، فالمسؤولية هنا ليست مسؤولية في حدود اصلاحات جزئية بل هي مسؤولية كونية من حيث أن هدفها تغيير التاريخ من تاريخ كما هو أو تاريخ الواقع القائم الى تاريخ حقيقي. و السياسة التي يتمحور حولها التمهيد هي سياسة تتخذ موقعها في هذه الرؤية الى العصر و الى حركة التاريخ و
الى الغرب.
2-التمهيد نقد لروح العصر (بالمعنى الهيجلي)
الفلسفة الغربية فشلت في ايجاد الحل الأخلاقي و الاقتصادي و السياسي و الثقافي للبشرية، ايران تمارس ا ليوم تجربة مجاوز ة هذا الفشل المأسوي انطلاقا من نقد جذري لروح العصر بالمعنى الهيجلي. ولاية الفيه لم تزلزل فلسفة هيجل فحسب بل زلزلت كل المطلقات: زلزلت المثالية الألمانية و زلزلت فكر ما بعد هيجل . و معنى هذا أن ولاية الفقيه لم تنقد من خلال الثورة و الدولة الحداثة وحدها بل نقدت و دحضت ما بعد الحداثة: فهي تدخض اليوم عن طريق التمهيد امتدادات فلسفة هيجل و ما بعد هيجل، خاصة في تجسداتها الأمريكية و الاسرائيلية، فالفكر الاجتهادي الملازم لولاية الفقيه هو الفكر الوحيد اليوم الذي يتمتع بالطاقة المفاهيمية و المعيارية التي تمكنه من النقد الجذري للدولة الهيجلية و للتاريخ الهيجلي و للسياسة الهيجلية و للثقافة الهيجلية و على العموم للفلسفة الهيجلية التي هيمنت على العالم من خلال الغطرسة الأمريكية. الفكر الاجتهادي هو الفكر الوحيد الذي طرح البديل على الصعيد النظري و على صعيد الممارسة. طرح البديل للتربية و للسياسة و للديمقراطية في صورها الغربية أي في صورتها الهيجلية.
فولاية الفقيه تقف عن طريق التمهيد في وجه التاريخ الواقعي تاريخ هيمنة القوة من أجل التأسيس للتاريخ الحقيقي الذي يقوم على أساس القيم الأخلاقية.
ان نقد روح العصر حقيقة عقائدية و فكرية و تاريخية و سياسية. ان زمان ايران بقيادة ولاية الفقيه ليس زمانا تاريخيا بالمعنى الهيجلي بل هو زمان الغيبة، أي زمان آ خر في زمان العصر، فهو زمان داخل العصر و خارجه في نفس الوقت، لأن زمان ايران هو زمان الانتظار و التمهيد أي زمان المعيارية و التطلع و الثورة. فولاية الفقيه هي النقيض لروخ العصر عصر أمريكا و اسرائيل، فهناك اطلاقية في التناقض الى د رجة أن هناك تاريخين: تاريخ القوة من جهة و تاريخ القيم من جهة أ خرى، هنا يتجلى الدور العقائدي و السياسي لولاية الفقيه التي تتخذ موقعها في هذه المرحلة من مراحل عصر الغيبة، مرحلة لها خصوصيتها: سقوط و زوال النماذج و ظهور البديل الاسلامي و تكالب الغرب و اسرائيل على هذا البديل الذي بدأ يتشكل في التجربة السياسية في ايران منذ الثورة الاسلامية، فحجم و دور ولاية الفقيه ملازمان لحقيقتها و موقعها في خط الامامة، لذلك تجابه ولاية الفقيه الواقع و ثقل الأحداث و التاريخ المهيمن، تجابه كل ذلك بالعقيدة و العقل المنفتح على الغيب و على التاريخ كما يجب أن يكون. هذه المجابهة هي التمهيد. فالتمهيد الذي يقتضي رفض التاريخ المهيمن على أساس نقد روح العصر. هذا التمهيد هو قوة الردع الكبرى بيد ولاية الفقيه. لذلك تحاصر ولاية الفقيه الغرب، تحاصره بالمعنى العقائدي للتاريخ و تجابه الواقع القاسي و المنحرف و المهيمن بالطاقة المعيارية و المفاهييمية و الروحية للفكر الاجتهادي، في حين تسعى الوهابية سعيا لاخراج الأمة الاسلامية من ثقافة ولاية الفقيه ثقافة ا لنقد و التحرر و الآفاق. غير أن مسار الأمة ليس متروكا للعوامل التاريخية وحدها و ليس متروكا لهيمنة القوة و الاستعمار و التبعية. فعصر الانتظار الذي يتخذ معنى التمهيد يتحول بصورة ثقافية و سياسية الى عصر الظهور بمعنى من المعاني و يحفظ مسيرة الدولة (الجمهورية الاسلامية) و الأمة من الانحراف في متاهات التاريخ الواقعي و هيمنة روح العصر. ولاية الفقيه تدخل في العصر من خلال عصر الظهور و ليس من خلال متطلبات العصر بصورة كلية و مطلقة على غرار كل الأنظمة السياسية و كل الانساق الفكرية التي تتحرك ضمنها هذه الأنظمة السياسية.
ان ايران تواجه العالم الذي يجسده و يهيمن عليه الغرب ليس بالرفض الانفعالي. فالرفض لا يفجر ثورة كالثورة الإسلامية و لا يؤسس دولة كالجمهورية الإسلامية و لا يغير الشعوب كما تغير الشعب الايراني في هذه المدة القصيرة منذ الثورة الإسلامية (ثلاثون سنة) هذه المواجهة تقوم على فكر يتمتع بطاقة نقدية لا مثيل لها في الفكر المعاصر الذي يتمحور حول فلسفة هيجل. هذا الفكر أحدث قطيعة في الفكر السياسي و الممارسة السياسة: القطيعة الضرورية لاعادة بناء الفكر السياسي و اعادة بناء الأمة الاسلامية. فولاية الفقيه كسرت الحاجز التاريخي و النفسي و الفكري الذي كان قائما في طريق كل محا ولة التغيرات الكبرى. فالولي الفقيه يتمتع بالشجاعة الأدبية و بالوعي التاريخي العميق و بالعقلانية المنفتحة على الآفاق من خلال انفتاحها على الغيب و التي تمكنه من احداث التغيرات الكبرى و تمكنه من توجيه هذه التغيرات نحو المستقبل الموعود.
ان الولي الفقيه يدخل في التاريخ من خلال التاريخ. أي يدخل في التاريخ الواقعي بكل مفرداته و بكل ثقله و قساوته، يدخل في هذا التاريخ من خلال التاريخ الحقيقي الذي يتمحور حول معيارية القيم و ليس حول القوة، على أساس هذه الخلفية التي تستمد وجودها و حقيقتها من العقيدة الاسلامية و من خط أهل البيت (ع) يدخل الولي الفقيه في عالم الثقافة و السياسة: في عالم السياسة المحلية و الاقليمية و العالمية فيؤسس للثقافة ذات البعد الروحي كبديل لثقافة السوق و الاستهلاك، ويؤسس للسياسة المرتبطة بمعنى الوجود و حقيقة الانسان بدلا من السياسة بمعناها المبتذل.
لا يكمن للأنظمة السياسة في العالم أن تحد ث تغيرات كبرى و تتجاوز الأزمة السياسية و الاقتصادية و الثقافية اذا بقيت هذه الأنظمة سجينة للزمان التاريخي الهيجلي. أي تمارس السياسة و تخطط على المدى المتوسط أو القريب أي في دائرة الحاضر و ليس في أفق المستقبل، فالمستقبل في الغرب تحول من المثالية و الطوباوية الى الرعب من المستقبل و أزم ة المستقبل. فالأنظمة سياسية في الغرب سجينة للنزعة التاريخية التي أوصلها هيجل الى منتهاها. هي سجينة لمرجعية حولها هيجل إلى الآن.
و هكذا فولاية الفقيه لا ينتهي دورها عند حدود تفجير الثورة و تفعيل عواطف الشعب و تطلعه الى العدالة على غرار ما وقع في كل ثورات العالم الإسلامي حيث انتهى
دور الفقهاء و العلماء بانتهاء الثورة فأصبحت دولة ما بعد الثورة تسير في مسار يتناقض مع الحقيقة الاسلامية للثورات في العالم الاسلامي.ان موقع العالم و العلماء في المجال السياسي هو موقع غير محدد في مدرسة السنة، أو هو متروك لتأويلا ت متعددة، لذلك أصبح هذا الموقع بيد السلطة الحاكمة الى درجة كبيرة، في حين أن ولاية الفقيه ليست مجرد اجتهاد و الولي الفقيه ليس مجرد فقيه مجتهد فحسب أو مثقف نخبة، بل ولاية الفقيه "نيابة" عن الإمامة، و من هنا لا يمكن فهم حقيقة ولاية الفقيه و دورها في المجتمع الا بوضعها في سياق العلاقة بين عصر الغيبة و عصر الظهور.
فولاية الفقيه ليست محصورة في دائرة زمنية محدودة ومغلقة أي ليس دورها محصورا في زمن قصير وضيق هو زمن الثورة أو زمن الفتاوى الجزئية الملازمة لفقه الفروع أو زمن التسيير اليوم لليوم.
إن ولاية الفقيه قيادة لعصر أي هي قيادة لمسافات بعيدة هذه الحقيقة هي التي تقتضي من ولاية الفقيه أن يكون دورها القيادي دورا مستمرا في مرحلة الثورة وفي مرحلة التأسيس لدولة الثورة ومرحلة الدولة والآفاق البعيدة: آفاق عصر. فولاية الفقيه لا يرتبط دورها بحملة انتخابية أو بحزب معين أو بعهدة رئاسية معينة، ومن هنا طاقتها المفاهيمية والمعيارية وموقعها في حركة التاريخ، فكل ذلك يمكنها من اتخاذ مسافة من الأحداث ومن المرحلة التاريخية ومن العصر بالمعنى الهيجلي أي من روح العصر، وكل ذلك يمكنها من تفعيل طاقات الشعوب وفتح هذه الطاقات على الآفاق البعيدة وليس على المدى القريب فحسب، وهذا عكس القيادة في الأنظمة السياسية الأخرى في العالم الإسلامي، فإنها تعطل طاقات الشعوب ولا تفتح هذه الطاقات على حركة التاريخ، أي لا تفتح طاقات الشعوب على الإنتظار وعلى التمهيد، فهذه القيادات أثبتت عجزها على ممارسة العمل السياسي المغير لأوضاع الأمة، فولاية الفقيه تواجه المتغيرات، وحركة التاريخ على العموم، ليس بمجرد التكيف مع الأوضاع والأحداث بل تحاول أن تضعها في سياق الأفق المستقبلي الموعود، فعلاقة ولاية الفقيه بالمتغيرات وبحركة التاريخ وبالتاريخ على العموم خاصة بمعناه الهيجلي هي علاقة "اجتهادية" تتجاوز التكيف لأنها: أولا: ليست ولاية الفقيه سجينة للزمان بمعنى روح العصر
ثانيا: لأن فكر ولاية الفقيه كفكر اجتهادي يتجاوز ثنائية العلاقة بين الذات والموضوع في المجال المعرفي، وهذا ما يجعله فكر المجاوزة والآفاق، أي فكر عصر وليس فكر مرحلة تاريخية قصيرة، فالولي الفقيه يمتلك قوة المبادرة ليقود نظاما سياسيا من موقع قيادة عصر بأكمله هو عصر الغيبة وخارج العصر كروح العصر أي كواقع قائم، فقيادة ولاية الفقيه ليست مجرد قيادة لحكومة أو لدولة على المدى القريب، لذلك فإن استراتيجية النظام السياسي في إيران ليست على غرار استراتيجيات الغرب، إنها استراتيجية عميقة وبعيدة الآفاق تستمد حقيقتها ودورها من مشروع منفتح على مستقبل موعود عقائديا وليس من مجرد تنظير فلسفي يعكس المرحلة التاريخية، فالنقد، نقد روح العصر يفتح المجال للتغيير لأنه نقد مسلح بالإنتظار أي بالتطلع العقائدي وليس نقدا قائما على تطلع طوباوي أو حتى على تطلع قائم على رؤية فلسفية إلى التاريخ على غرار الفلسفة الهيجلية وغيرها من فلسفات التاريخ، فعندما نتكلم عن ولاية الفقيه لا نتكلم في حدود مرحلة بل في دائرة أوسع هي الدائرة العقائدية والتاريخية والشعبية و البشرية، فالشعب الإيراني على غرار الولي الفقيه هو شعب يتميز بقوة الصمود والنقد والرفض ومجاوزة سلبيات العصر، فولاية الفقيه المفعلة لطاقات الشعب ليست مجرد قيادة كسائر القيادات الأخرى، وليست زعامة بل هي عمق تاريخي يكسر حواجز القوة والخوف ويؤسس للاستراتيجية والمشروع ومجاوزة الواقع القائم، فالعلاقة بين الولي الفقيه والشعب الإيراني كشعب يجسد حقيقة ودور الأمة الإسلامية اليوم، هي علاقة لا يمكن فهمها بدون هذا العمق التاريخي الذي تتفاعل فيه النبوة والإمامة وكربلاء تفاعلا يوجه التاريخ ولا يوجهه التاريخ، فالغرب بكل قوته وجبروته وحصاره وحروبه لم يستطع أن ينال من صمود الشعب الإيراني، بل على العكس لقد ازداد صمود هذا الشعب وتحديه لكل أنواع القوة التي استخدمها الغرب ضد إيران، إنها مجابهة زمن ولاية "النيابة" لزمن روح العصر الذي تجسده أمريكا.
3- التمهيد رؤية جديدة إلى السياسة
إن تركيبة النظام السياسي في إيران في مستوى التفاعل مع حجم المستقبل الموعود، وهذه حقيقة من الحقائق الأساسية لولاية الفقيه ، وللتمهيد الملازم لها، فالنظام السياسي في وضع مهدوي، فالمفاهيم والقيم الملازمة للمستقبل المهدوي هي المفاهيم والقيم التي يسعى النظام السياسي إلى ممارستها يوميا واستراتيجيا، فلا يمكن تصور دولة تقودها ولاية الفقيه يكون عملها السياسي مجرد تسيير للأوضاع.
فالجمهورية الإسلامية دولة التمهيد، أي دولة المسافات البعيدة، وهذا يقتضي حتما وجود استراتيجية نوعية تتفاعل مع عقائدية ومعيارية السياسة والدولة، وذلك كله في هذا العصر عصر موت السياسة وانسداد الأفق.
فإيران لا تؤسس لمجرد تغيير داخل العصر أو تؤسس لمجرد تغيير على صعيد الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة، بل تؤسس إيران لتغير تاريخي كوني: لانقلاب تاريخي من عصر إلى عصر.
ومن هنا خصوصية الثقافة وخصوصية السياسة وخصوصية معنى السياسة ومعنى الدولة ومعنى التاريخ، في أفق خصوصية معنى الوجود، كما زال مفهوم اللاهوتية بمعناه السلبي من خلال الرؤية الجديدة إلى القيادة وإلى علاقة المجتمع بالقيادة وللرؤية الجديدة إلى السياسة وإلى العلاقات الدولية وكل ذلك في أفق رؤية جديدة إلى التاريخ وإلى المستقبل: رؤية أحدثت قطيعة جذرية مع فلسفات التاريخ الكبرى التي تتمحور حول الفلسفة الهيجلية وحول الفلسفة الماركسية.
إن التراكمات السلبية و المأساوية للسياسة في العالم الإسلامي منذ السقيفة وبوجه أخص منذ ظهور الملك على يد معاوية بن أبي سفيان، هذه التراكمات لا يمكن أن تتحرر منها الشعوب الإسلامية إلا بوضع السياسة في سياق تاريخي وفتحها على آفاق وعد الله بنصر المؤمنين وهذا يقتضي فكرا يقوم على وعي تاريخي عميق وهذا ما تقدمه ولاية الفقيه اليوم للأمة الإسلامية، فهي تقدم الفكر السياسي وطريقة القيادة في سياق حاضر الأمة المرتبط بمستقبل موعود عقائديا، فالسياسة تمهيد وليست مجرد سياسة سياسة محصورة في دائرة الحاضر المغلق.
إن الخلل المميت في المجال الفكري والسياسي خاصة لا يمكن معالجته اليوم لليوم وبصورة جزئية، ففتح الآفاق أمام الأمة يتحقق عن طريق وضع الأمة في موقعها العقائدي والسياسي والتاريخي أي النظر إلى الأمة كمجتمع مفتوح وفي تحقق مستمر والنظر إلى السياسة كتمهيد وليس كمجرد تسيير للوضع القائم، فحاضر الأمة ليس حاضرا مغلقا بل هو مجرد مرحلة في عملية تحقق الأمة، وهذا ما يقتضيه مفهوم ولاية الفقيه كاجتهاد وقيادة وتطلع، فهناك تلازم بين الأمة كأمة في تحقق مستمر وبين المهدوية كمستقبل يقتضي التمهيد وولاية الفقيه كمنظرة وقائدة للتمهيد.
إن الصراع اليوم هو صراع بين كونية قاتلة: قتلت الإنسان بعد "قتلها" لله، وكونية تقوم على قيم روحية وأخلاقية تسعى إلى جمع كل الشعوب في عولمة أكثر انسانية في عولمة يقودها فكر منفتح على ما يتجاوزه أي على الغيب وليس فكرا مرجعيته التاريخ ولا بعد أو مصدر آخر خارج التاريخ.
فالصراع اليوم هو صراع بين زمنين: الزمن الغربي الذي تجسده أمريكا واسرائيل عن طريق السياسة بمعناها المبتذل الذي لا يتجاوز الهيمنة واستغلال الشعوب، وزمن الأمة الإسلامية الذي تؤسس له إيران وتجسده بقيادة ولاية الفقيه.
إيران تقدم اليوم نموذجا للسياسة البعيدة عن التشنج الذي يهيمن على السياسة في الغرب ولدى السلفية بمعناها الميتذل والمنحرف.
فمن الناحية الأخلاقية ومن الناحية المنهجية في نفس الوقت يجب على الفكر المعاصر أن يقرأ السياسة والإستراتيجية في هذا الإطار: إطار الزمان التاريخي كمرجعية وحيدة للسياسة في الغرب والزمان التاريخي المرتبط بالزمان المهدوي كمرجعية للسياسة في النظام السياسي الإيراني اليوم.
إن الأفق الزماني لعمل ولاية الفقيه هو أفق واسع يستوعب ويحتوي كل قوة بوضعها في حجمها الحقيقي على الصعيد التاريخي أي في أفق الزمان التاريخي ولكنه زمن تاريخي منفتح على ما يتجاوزه، فحاضر القوة السياسية بمعناها المبتذل هو حاضر مهيمن، لكن على صعيد الأفق التاريخي المنفتح على ما يتجاوزه كل قوة مهما كانت، فهي قوة قابلة للإختراق والتغيير والسقوط، وهذا ما تؤكده يوميا ممارسة النظام السياسي في إيران الذي يتميز بالرؤية الاستباقية التي تمكنه من احتواء الأحداث والتحديات التي لم تنقطع منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية.
إن هذا العصر هو عصر أكبر أزمة للحضارة الإنسانية على كل الأصعدة الأخلاقية والسياسية والثقافية والإقتصادية ولا يمكن تحرير البشرية من هذه الأزمة القاتلة إلا برؤية مستقبلية صحيحة وملزمة أخلاقيا ومعرفيا ، ففلسفات التاريخ، بما تحتويه من رؤى مستقبلية تقوم على أساسها أنظمة سياسية، هي فلسفات قد فشلت و إنهارت ولم يبق في الميدان اليوم إلا نظام سياسي واحد هو النظام السياسي بقيادة ولاية الفقيه، هو النظام الوحيد الذي يمتلك الرؤية المستقبلية الواضحة و الدقيقة و الملزمة التي تؤسس لسياسة التغيرات الكبرى، فلا وجود في الغرب اليوم لرؤية مستقبلية تلازمها السياسة. فالسياسة تحولت إلى سياسة بالمعنى المتبدل التي لا تتجاوز حاضرا مغلقا لأنه لا وجود لمشروع للابتذال و اللاأخلاقية ووجودهما يتناقض مع أي مشروع يتمتع بالإنسانية و الكونية.
إن الرؤية المستقبلية ذات المصدر العقائدي فتحت المجال لتأسيس دولة التاريخ عن طريق ولاية الفقيه، فدولة الثورة الإسلامية هي دولة التمهيد لذلك يحيط بها التاريخ من كل جانب، لكن ليس التاريخ إلا أنه كما يرى هيجل، بل التاريخ المنفتح على الغيب. أي أن التاريخ الذي يجسد السياسة كفعل تعبدي بفضل قيادة النبؤة و الإمامة و امتداداتهما الاجتهادية في ولاية الفقيه.
4- التمهيد تجديد و ليس تحديثا
وهكذا فعلاقة الشعوب بالزمان التاريخي لا تكفي لأحداث التقدم و التغيير، هذه العلاقة قد تؤدي إلى زمان مغلق و مسدود الأفق، بل قد تؤدي، وقد أدت بالفعل، إلى التنظير و الممارسة لنهاية التاريخ أي لزوال التاريخ كحركة و تغيير و يتبقى ليس تاريخا بل هو "مابعد التاريخ". أي زمانا ساكن يبرر الواقع القائم. إن هذه الحالة تعني زوال كل تطلع و كل حماس و كل التزام لتحقيق مشروع كوني ف لا يبقى إلا السلوك التكراري و التثاقل و الملل، في هذا السياق تتخذ الدولة الهيجلية، دولة الحداثة و التحديث، موقعها الدولة التي تجسدها أمريكا اليوم، وفي سياق أخر السياق التوحيدي المتناقض مع الرؤية الغربية إلى الدولة و حركة التاريخ و التقدم تقود ولاية الفقية تجربة تقوم على رؤية أخرى إلى الحركة و التغيير و التقدم، علاقة الدولة بالتاريخ هي علاقة ضرورية لأحداث التغيير و لكنها علاقة غير كافية. إن الأمة الإسلامية هي أمة مرتبطة بالماضي ليس كماضي زال و إنقضى بل كماضي يجسد التنزيل و يجسد النموذجية الكونية و الخاتمة من خلال النبوءة و الأمامة.
ومن جهة أخرى، إن الأمة الإسلامية تتطلع إلى المستقبل تطلعا عقائديا، إذا كان لا يتناقض مع التاريخ فإنه يتجاوز الزمان التاريخي فإنه يتجاوز التاريخ، زمان هذا التطلع إلى المستقبل يتجاوز الزمان التاريخي دون أن ينفيه نفيا بل يتفاعل معه و يفعله تفعيلا إجتهاديا و جهاديا. أي يحوله إلى ميدان للتمهيد و ليس للتحديث، وهذا بفضل وجود القيادة النوعية التي تقود علاقة الزمان التاريخي بزمان التطلع. أي بالزمان المهدوي. و هذا مايجري اليوم في إيران بقيادة ولاية الفقية، أي بقيادة الإمتداد النبوي و الأمامي " بصورة إجتهادية "، فالزمان التاريخي الذي يعيشه الشعب الإيراني هو زمان حاضر و مستقبل. هو زمان التمهيد و ليس التحديث لأن التحديث أنهى التاريخ أي أنهى المثالية و أصبح الغرب حالة تكرارية مغلقة هي ما بعد الحداثة أو ما بعد التاريخ، فالحاضر في سياق وأفق التمهيد هو دائما حاضر في وضع انتظاري، أي في وضع تطلع: هو حاضر ومستقبل. إذا كانت هذه الحالة تمثل تناقضا في منطق عقل الأنوار والحداثة، فإنها تجسد العلاقة العقائدية بالزمان وبالتاريخ وبالمستقبل، وهي علاقة ليست متروكة لأي تأويل لأنها تضبط وتؤطر وتفعل عن طريق قيادة نوعية ذات فكر نوعي وذات موقع نوعي في التاريخ: هذه القيادة هي ولاية الفقيه و الفكر الاجتهادي الملازم لها، فالزمان التاريخي هنا لايمكن تجميده في نظرية أو في فلسفة أو في شخص أو في دولة أو في شعب على غرار الزمان التاريخي في فلسفة التاريخ التي تقوم على أساسها الدولة في الغرب وتقوم على أساسها الحداثة وما بعد الحداثة.
فحاضر إيران الذي تقوده ولاية الفقيه هو حاضر التطلع المهدوي أي حاضر الانتظار كطموح عقائدي تاريخي وليس مجرد طموح تاريخي أنتجته الأحداث والعوامل التاريخية، فهنا الطاقة التغييرية للحداثة لا تصل إلى مستوى هذا الطموح المهدوي لأن هذا الطموح لايشبعه ولا يرضيه إلا تغير كيفي وجذري يزلزل الرؤية الوضعية إلى التاريخ والسياسة والانسان. وهذا ما جعل العقل الغربي يعجز عن الفهم الحقيقي لما يجري في إيران منذ الثورة الإسلامية.
والحقيقة أن إيران تتغير لكن تغيرها لا يمكن وضعه في قوالب مفاهيم العلوم الإنسانية التي تسير على أساس مرجعية وخط الحداثة. هذا التغيير خارج عن الرؤية الفلسفية الغربية إلى التقدم كتقدم خطي. وهو في الحقيقة يشمل شعوب الغرب من دون الناس، التغيير الذي تسير في أفقه إيران خارج نمطية الرؤية الغربية كما تتجلى في فلسفات التاريخ الغربية. هذا التغيير تجديد وهو ممتد الآفاق، فالوجود بالنسبة لإيران كشعب وكنموذج للأمة الإسلامية اليوم هو ما سيأتي، وحاضر إيران هو حاضر التمهيد، أي التحقق. إيران في تحقق لأن إيران بقيادتها الكونية (ولاية الفقيه) هي أعلى غرار الأمة الإسلامية، في تحقق مستمر، فعدم الاكتمال أي تحقق التغيير ووصوله إلى منتهاه ودورته ليس نقص، بل هو حقيقة أو جزء من الحقيقة الوجودية الإيرانية لأن إيران تسير نحو تحقق مشروع كوني يتجاوز الحدود الوطنية والقومية والاقليمية، مع العلم بأن هذه الحركة نحو المشروع يتفاعل فيها المجتمع مع الدولة تفاعلا عقائديا و سياسيا، و هذا عكس العلاقة بين الدولة و المجتمع في الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، حيث أن هذه الأنظمة تقف في وجه تطلع شعوبها إلى التغيير و تحارب هذا التطلع بكل شراسة. و في أحسن الأحوال تلجأ هذه الأنظمة إلى تحديث صوري يرسخ تبعيتها للغرب، فعلاقة المجتمع بالدولة في إيران اليوم هي علاقة تتم من خلال و على أساس علاقة المجتمع بالولي الفقيه. لذلك فهي علاقة تفعل الطاقة التغييرية التي تتخذ صورة و معنى التمهيد و من هنا انفتاحها على المسافات و الآفاق البعيدة، آفاق المشروع الكوني الذي لا يمكن للعقل الوضعي المنتج للحداثة أن يتصور هذه الآفاق.
و هكذا فخصوصية زمان الشعب الإيراني (أي زمان الأمة الإسلامية) تأتي من كونها خصوصية تقوم على رفض الزمان التاريخي، زمان التاريخ الواقعي. أي زمان التحديث و الحداثة، لكن هذا الرفض ليس رفضا تعويضيا و مجردا بل هو رفض يتم من خلال الانتظار بقيادة ولاية الفقيه عن طريق التمهيد، أي عن طريق الثورة و الدولة اللتان تجسدان ممارسة متطلبات و قيم التاريخ الحقيقي البديل ممارسة تتخذ من حيث هي تمهيد، معنى التجديد و مجاوزة التحديث.
فالتغيير في هذا السياق، يتم على أساس رؤية أخرى غير الرؤية الغربية إلى الإنسان و المجتمع و السياسة و حركة التاريخ. و الفكر الذي يقود هذا التغيير هو الفكر الاجتهادي الذي يتمتع بالطاقة العقائدية و المفاهيمية و المعيارية و العرفانية طاقة لفصل إيران أو تحريرها من عالم يتحكم فيه زمان تاريخي يجسد قوة مهيمنة على شعوب العالم، خاصة الشعوب الإسلامية، فولاية الفقيه تجرد الزمان الإيراني من الزمان التاريخي المهيمن. عملية التجرد هي عملية اجتهادية و ثورية لم يسبق لها مثيل لأنها تفتح الشعب الإيراني على آفاق الزمان المهدوي الذي لا يرضى بالتغيرات الجزئية، بل لا يرضى بالتحديث لأن التغيير في الأفق المهدوي هو تجديد.
وهكذا فموقع إيران في التاريخ الواقعي هو موقع يتم على أساس التاريخ الحقيقي، أي التاريخ كما يجب أن يكون. فزمان التاريخ الحقيقي هو واقع سياسي و ثقافي في إيران اليوم: هو الدولة الممهدة، أي الدولة التي تسير في خط الثورة بقيادة ولاية الفقيه، أي دولة التغييرات الكبرى التي تتجاوز التحديث، فالشعب الإيراني ليس فردية تاريخية. أي ليس مجرد منتوج تاريخي بإطلاق بل هو فردية تاريخية في سياق كلية التاريخ أو التاريخ الكلي و الكوني الحقيقي الذي يتحرك على أساس التمهيد و التجديد و ليس على أساس التحديث، فخصوصية الشعب الإيراني الذي فجر الثورة و أسس الدولة الإسلامية تستمد حقيقتها من كونية الأمة الإسلامية. في هذا السياق تدمج بصورة نقدية و تجاوزية خصوصية الحداثة في الكونية الإسلامية عن طريق التمهيد الذي يتجاوز كل فلسفات التغيير و التقدم، هذه المجاوزة النقدية للحداثة تتم في إيران وحدها في هذا العصر .
5-الدولة الممهدة دولة الثورة:
مازال الفكر الغربي و الفكر المحدث التابع له في العالم الإسلامي لم يفهما حقيقة الثورة الإسلامية و حقيقة دولة الثورة الإسلامية، فالفكر الغربي يعتمد على مقاربة أساسها منطق القوة النابع من نفي الآخر بصورة أو بأخرى و التمركز على الذات. فالدولة في إيران، عبر الحكومات المتتالية، د ورها هو دور إعادة الروح للمبادئ الثقافية و السياسية للثورة و لأهداف الثورة في أفق التمهيد لاستحقاق الإمداد الغيبي أي الظهور، فهذا هو الأفق الذي تسير نحو ه كل الحكومات في إيران تحت إشراف الولي الفقيه. فعندما تريد إيران أن تمتلك التكنولوجيا النووية و غيرها، وعندما تريد أن تتحرر اقتصاديا و ثقافيا وسياسيا فهي تسير في مسار الثورة و مسار التمهيد للمشروع الكوني، غير أن التمهيد يحمل المستقبل و لكنه لا يحمل المستقبل كله لأن الظهور ليس مجرد منتوج للعوامل التاريخية بل هو امداد غيبي. و التمهيد يهيأ الأرضية للمستقبل من موقع استحقاق الإمداد الغيبي.
لا يمكن أن تستمر الثورة الإسلامية و تسير في طريق الاستكمال إلا إذا كان الزمان السياسي للدولة مرتبطا بالزمان المهدوي زمان التمهيد. فهنا المهدوية الإسلامية تفوق كل أنواع المهدويات الأخرى الفلسفية و العلمية و الاديولوجية من ليبرالية واشتراكية وغيرهما.
ففي هذا السياق يمكن القول بأن الدولة الإيرانية من حيث هي دولة الثورة الإسلامية تجاوزت الدولة بمفهومها الغربي على العموم. هذه الدولة أرادت أن تتكلم مع كل المذاهب في العالم الإسلامي و مع كل الشعوب سواء الشعوب المستضعفة كشعوب الجنوب، أو تعيش حالة العبث بسبب انقطاعها عن الله كالشعوب الغربية في هذا العصر عصر أزمة القيم و أزمة الكونية الغربية التي تحولت إلى كونية قاتلة، جاءت الثورة الإسلامية برؤية جديدة إلى السياسة و برؤية جديدة إلى علاقة السياسة بالدين.
لقد ظن الفكر المعاصر، بل تيقن بأن زمان علاقة السياسة بالدين و قد ولى و انقضى نتيجة لتطور الفكر ابتداء من عصر الأنوار. فالبديهية التي يرتكز عليها الفكر السياسي المعاصر أن ربط السياسة بالدين يؤدي حتما الى الثيوقراطية و الانحطاط.
لذلك يمكن القول بأن الشعب الايراني بقيادة ولاية الفقيه حقق ثورتين: الثورة الاسلامية و دولتها و الفكر الامؤسس للثورة و الدولة، أصول الفقه المنفتح على الفلسفة والعرفان، هو فكر أجدث زلزالا في مفاهيم الفلسفة المعاصرة و في مفاهيم الفكر السياسي و الممارسة السياسية، حيث أن الفكر المؤسس للثورة و الدولة يستمد مرجعيته من الدين و من الشعب. و هذا ما يعتبر نقيضا لأطروحة الفكر السياسي المعاصر الذي يقوم على فصل السياسة عن الدين .
فنحن هنا بصدد كونية أخرى تتجاوز الكونية الغربية التي بررها هيجل برؤيته الفلسفية الى السياسة و الدولة و حركة التاريخ. فالدولة الاسلامية في ايران هي دولة تحمل في بنيتها و تركيبتها عناصر الكونية التي تجعلها دولة الثورة و الآفاق أي دولة التمهيد في عصر سقوط النماذج.
فنموذجية الدولة في ايران تكمن في كونها تتمحور عقائديا و سياسيا حول التمهيد الذي يهيؤها للمسافات البعيدة التي تقتضي منطقا آخرا منطق يتجاوز المنطق الجدلي الهيجلي الذي جمد الدولة و جمد حركة التاريخ عن طريق نظرية نهاية التاريخ. فدولة الثورة الاسلامية هي دولة ممهدة أي دولة التفعيل الحضاري الذي يقوم على أساس العلاقة بين الدولة و المثل الأعلى كعلاقة لا يمكن أن تحتوي المثل الأعلى لأن الالمثل الأعلى هو الله تعالى. اطلاقية المثل الأعلى تفتح المجال لحركة تاريخية تفوق كل فلسفات الصيرورة التاريخية. في حين أن الثوابت التي تقوم على أساسها دولة الثورة الاسلامية هي التي تجعل الدولة دولة الصيرورة التي لا تنفذ طاقتها. زمان الثورة الاسلامية هو زمان السياسة بمعناها الحقيقي: السياسة بمعناها الأخلاقي و التغييري. أما زمان الدولة فهو زمان السياسة في عالم الممكن، أي سياسة الحسابات و تبرير كل السلوكات من أجل تحقيق أهداف السلطة أو الحاكم. و لاية الفقيه كسرت هذه المعادلة و حولت الدولة الى استمرار للثورة. أي حولت زمان الدولة الى زمان الثورة و جعلت السياسة بمعناها الحقيقي تنمو و تستمر، أي جعلت السياسة سياسة التمهيد المنفتح على المسافات البعيدة و الآفاق. لذلك لا تزول الثورة، في النظام السياسي في ايران في مرحلة الدولة: لأن قيادة الدولة هي في حدذاتها ثورة، فولاية الفقيه و الفكر الذي تجسده من موقع " النيابة" عن الامام كل ذلك لا يمكن أن يزول في مرحلة الدولة.
لا شك أن دولة ولاية الفقيه هي دولة هيجلية من حيث أنها تجسد قيما، لكن اذا كانت الدولة الهيجلية تجسد المطلق، و هي مطلق في نظر هيجل. اذا كان الأمر كذلك، فان دولة ولاية الفقيه تجسد القيم لكنها كلما جسدت القيم ترسخت و تعمقت حالتها التعبدية لله تعالى. و اذا كانت دولة هيجل قد انتهت الى الاسترخاء و نهاية التاريخ، فان دولة ولاية الفقيه تجابه الأحداث و تنفتح على آفاق مشروع كوني يحتوي و يتجاوز كل الكونيات التي ظهرت عبر التاريخ.
في هذا السياق يمكن القول بأن دول ما بعد الثورات أصبحت رهينة للاديولوجيا: ايديولوجيا الزعيم، هي دول أفرغت الثورة من مضمونها، في حين أن دولة الثورة هي دولة تفعيل قيم و مفاهيم الثورة و هذا ما تتميز به الدولة في ايران اليوم، لذلك فتحت ايران في هذا العصر مرحلة تاريخية جديدة: مرحلة دولة الثورة أي دولة التمهيد في أفق الانتظار، و لعل الدولة في ايران هي الدولة الوحيدة من بين كل دول ما بعد الثورات التي تسير في خط الثورة، و هذا راجع الى:
أولا: الأساس العقائدي و المفاهيمي الذي تقوم عليه السياسة في ايران اليوم.
ثانيا: عقائدية و ثورية القيادة، أي ولاية الفقيه خصوصية هذه القيادة من حيث هي " نيابة" عن الامامة أي قيادة لعصر بأكمله تتجاوز حدود دائرة التغيير لأن دورها دور تمهيدي يتجاوز كل طاقات القيادات الثورية عبر التاريخ.
ثالثا: تفاعل الشعب الإيراني مع القيم و المفاهيم الإسلامية الملازمة للثورة الإسلامية، وهذا عكس قيادة "الزعيم" الذي حول الثورة الشعبية في العالم الإسلامي إلى دكتاتورية بمجرد تأسيس الدولة، دولة ما بعد الثورة.و كل ذلك تحت غطاء الدفاع على الوحدة الوطنية و مكتسبات الثورة، فهنا تم عزل الشعب عن السياسة وعن الدولة، وتحولت العلاقة العقائدية بين الشعب و الثورة إلى علاقة إيديولوجية بمعناها المبتذل، بين الدولة و الشعب. علاقة إيديولوجية تبريرية للوضع القائم و ليست علاقة تمهيدية على غرار الدولة بقيادة ولاية الفقيه. فمسار الدولة في طريق الثورة. أي في طريق التمهيد حول السياسة في إيران إلى واقع كوني يتجلى في الممارسة السياسية في الداخل، في علاقة الدولة بالمجتمع و يتجلى في علاقة الدولة بالعالم و بالدول وبقضايا العالم كالحروب و استغلال الشعوب و التلوث و مشكلة الطاقة و علاقة العلم بالتكنولوجية و بالأخلاق.
لقد نجحت إيران في هذا العصر في بناء دولة عصرية إسلامية و ليس "دولة إسلامية عصرية" لأن ولاية الفقيه فعلت العلاقة بين الطموح التاريخي ذو المصدر العقائدي: فعلت العلاقة بين الطموح التاريخي للشعب الإيراني و الدولة.
الخاتمة
و هكذا فالدولة بقيادة ولاية الفقيه لا يمكن إلا أن تكون دولة التغيرات الكبرى أي دولة التمهيد التي تسير في خط كونية الثورة الإسلامية كواجب شرعي و مطلب تاريخي و شعبي و خيار استراتيجي في أفق المشروع المهدوي دولة شعب مسؤول عن عصر بأكمله و عن مستقبل المسلمين و البشرية كلها ويجابه اليوم الفكر الهيجلي الذي تجسده أمريكا التي تحاول عبثا منع إيران الحقيقة الإلهية من لعب دورها الكوني.
https://ayandehroshan.ir/vdcd.z0f2yt0xna26y.html
ارسال نظر
نام شما
آدرس ايميل شما